دروس في الشجاعة…البطريرك مار لويس.. بقلم نافع توسا

                        دروس في الشجاعة  من مستنتجة  من زيارة                         
  غبطةالبطريرك مار لويس ساكو للمتظاهرين في ساحة التحرير في بغداد  

منذ ايام لا تتجاوز 3 أسابيع اندلعت شرارة ثورة شعبية في بغداد سرعان ما انتشر اوارها في المحافظات الجنوبية من العراق مكوّنة ثورة شعبية وصفها بعض المسؤولين بـالــ” عفوية” أو بــ “حراك شعبي من دون قيادة مركزية تمثلها”. تطوّرت طلبات المتظاهرين من: طلب العمل ومكافحة البطالة وتوفير لقمة حياة كريمة وحقوق يضمنها الدستور، لتصبح مطالبات بإلغاء نظام المحاصصة عند الاشتراك بالحكم و مكافحة الفساد في مختلف ميادينه وأخيرًا لتغـيـر شامل لنظام الحكم بمختلف اركانه ورموزه بعد انبثاقه بتأثـيـر الاجتياح الأمريكي لأراضي العراق بمعاونة بعض العراقيين الحاقدين عام 2003.
كانت البداية اعتراضات واحتجاجات بسيطة تطلقها جماعات صغيرة كتلك التي سبق لها الظهور بين الحين والحين في شوارع بغداد. استطاعت السلطات بدعم خارجي حينذاك من اخماد نيران تلك الاعتراضات بسرعة بوعود كاذبة و خلابة أو بــ “بيانات على الورق” أو بــ “إجراءات هزيلة” خدّرت المشاركين في الاعتراض والاحتجاج، توقعًا فعالية نية المسؤولين الحسنة. ولكن هذه المرة اختلفت الأوضاع وفهم الثوار لعـبة السلطات القذرة وحيلها الشيطانية فاستعدوا لمجابهتها بتظاهرات جماهيرية سلمية تمامًا و وفقًا للدستور النافذ المفعول، متكلين على عون الله و واضعين دماءهم على الأكف. هذا الاستعداد كان سببًا حقيقيًا ومباشرًا لالتفاف الجماهير حول تلك الجماعات ككرة الثلج المتدحرجة والتي يكبر حجمها باستمرار تدحرجها.
طبعًا هذه الاوضاع فاجأت العالم بأسره ولكنها شغلت أيضًا المواطن العراقي في الداخل طالما هو صاحب المصلحة الأولى، فبدأ يُفكـّر بجدّية ببؤسه وحالته التعسة والمزرية وبمستقبله. فـفتـّش عن الحل الأمثل. القيادات الوطنية المخلصة وبحكم مسؤوليتها ودورها المهم في المجتمع اخذت هي الأخرى تبحث عن سبب هذا الحدث المريع و تحلل الثورة المنتشرة نيرانها لتطرق ابواب الحلول الممكنة. من بين هذه القيادات اركز حديثي هذا على قيادة الكنيسة الكلدانية في العراق وفي العالم كلـّه، وعلى رأسها غبطة البطريرك والكردينال مار لويس ساكو الكلي الطوبى، المقيم في قـّلايته “القلاية صومعة الراهب، وحسب تاريخ الكنيسة غالبًا ما كان البطاركة هذه الكنيسة في الأصل رهبانً. لذا احتفظ مسكن البطريرك الدائم بهذه التسمية”. وحتى عندما لم يكن البطريرك المنتخب راهبًا كان يقيم في أحـد الأديرة في صومعة كصومعة الرهبان” في بغداد وصف اساقفته وكهنته. فكّر غبطته مليًا مع معاونيه في الموضوع واستعرض الأحوال واختار بشجاعة الابطال الوقوف إلى جانب الشعب العراقي الثائر المطالب بحقوقه كاملة، والتي هي في الوقت ذاته حقوق فرضها الله وأقرتها القوانين والدساتير والشرع البشرية. فقرّر زيارة ساحة التحرير في بغداد حيث شعلة ثورة الشعب العراقي مضطرمة. انها زيارة غريبة وشجاعة وبسيطة رافقه فيها بعض من الأساقفة والكهنة الشجعان دون حماية تذكر أو أزلام وشرطة مرتزقة يفسحون المجال له بـأبهة وترهيب كما هي حالة المسؤولين الكبار في تنقلاتهم. سار البطريرك ساكو سير الأبطال مع مرافقيه غير مبالٍين بالأخطار المحدقة بهم كالقتل عل أيدي أزلام المسؤولين.
وصل البطريرك ساكو ومعاونوه مركز المتظاهرين في ساحة التحرير على متن ما يعرف حاليًا بــ “التك تك”. مشهد مدهش وغير متوقع ولكنه نسخة من لحظات دخول الرب يسوع الناصري المولود في بيت لحم والمهجّـر طفلاً إلى مصر بأمر إلهي حفاظًا على سلامته. تخيـّلت الموقف دقائق وقارنت شجاعة البطريرك بشجاعة المسيح الذي دخل اورشليم/القدس راكبُا جحشًا حقيرًا ومحاطًا برسله وتلاميذه. شعب مدينة اورشليم لم يهتم للموقف البسيط لهذا الدخول، فاستقبله استقبال الملوك والعظماء وبأغصان الزيتون مرفوعة بالأيدي وهم يصرخون يهتفون منشدًين اوشعنا شعارٍا للسلام والمحبة، فرشًوا الأرض بملابسهم ليدوسها الجحش الذي امتطاه المسيح تكريمًا له ومحبة به. هذا ما لاقاه البطريرك ساكو ومعاونوه عند ترجلهم من التك تك فألتفت حولهم الجموع دون تميز أو تفريق رغم أنـَّه رئيس “أقلية” بحسب ترتيب مسؤولي الحكم في العراق الذين صنـّفـوا المجتمع العراقي حينذاك أيّ عندما استلموا السلطة على طبق من فضة من المحتل الغازي، إذًا لا حاجة لأخذها بنظر الاعتبار أو الاهتمام بهذه الأقلية حسي رأيهم والاكتفاء بإعطائها الفتاة طالما لا تريد ان يكون بيدها السلاح الذي يرهبهم وإنْ كانوا الأقوياء. تحدث البطريرك ومعاونوه إلى الجميع ببساطة قاـب حنون ومحبة وابتسامة شاهدناها على الوجوه من خلال الأفلام القصيرة التي صورت اثناء اللقاء ونشرت على الشبكة العنكبوتية بعد ذلك.
عندما وصل المسيح إلى الهيكل يخبرنا الإنجيل المقدس، صنع له سوطًا وانهال به على ظهور المتاجرين بالدين بعد انْ زيـّفـوه، وقلب موائدهم وبعثر متاجرهم وصرخ بهم صرخته الخالدة: “بيت أبي بيت صلاة وانتم جعلتموه مغارة للصوص” . حمل البطريرك ساكو مع حبه للمتظاهرين أدوية للمحتاجين من الجرحى والمصابين بنيران القناصة، ودعمًا روحيًا و مساندةً قويةً للمضي قدمًا حتى تحقيق الأهداف والمطالب الشرعية العادلة.
تتميـّز زيارة البطريرك ساكو بالشجاعة بـمـفهومها الصحيح أيْ التي تهدف الخير العام والعدالة والمساواة. انها بعيدة كل البعد عن الهمجية والأنانية والقدسية المزيفة حيث يكثر اصدار الفتاوى وبقاء المفتي في غالب الأحيان قابعـًا في برجه العاجي. على المسؤول الحقيقي انْ يُقلـّد عمل البطريرك الشهم وان ينزل بشجاعة ودون سلاح أو حماية كما فعل البطريرك ساكو. عندما سأل المتظاهرين عـما يريدونه دون خوف او وجل. على المسؤول انْ يسأل عما يطلبه المتظاهرون. عليه انْ لا يخاف منهم، لأنَّ المفروض فيه ان يكون ابًا لهم وعندئذٍ سوف لا يعتدوا عليه فقط بل أيضًا انهم سيحمونهم بأرواحهم طالما سيجدونه يحبهم ويعمل لخيرهم بأمانة واخلاص.
أخيرًا نذكر أولاً انَّ البطريرك ساكو هو الأول والوحيد الذي عرّف وفهم جيدًا ان المشكلة في العراق هي ثقافية وروحية وليست سياسية بحتة كما يدّعي الكثير من السياسيين. فعلى المسؤولين الاصغاء لهذا التعليم والعمل بموجبه إنْ كانوا حقًا يحبون العراق وأرضه ويعملون لخير الجميع باستقلالية تامة وان كانوا حقًا يحملون في قلوبهة الهوية العراقية بمعناها الحقيقي. أمَّا ثانيًا فنذكر أن بطاركة كنيسة المشرق (وهذا هو اسم الكنيسة الكلدانية عبر التاريخ) كانوا غالبًا أول مستشاري الخلفاء العباسيين في عصورهم الذهبية إضافة إلى أنَّ ابناء هذه الكنيسة / كانوا من رعايا هذه الدولة -العباسية – ولكنهم كانوا في الوقت ذاته بناة لما يُعرف اليوم بالحضارة العربية التي تأسست وترعرعت على ايدي المفكرين منهم والمترجمين والأطباء والصيادلة وامناء خزينة الدولة (والأخيرين لنزاهتهم) لعقودٍ من السنين. فعـلينا دومًا مراجعة المصادر التي تـُظهر اخلاص المسيحيين لأوطانهم بناءً على تعليم المسيح لهم حيث يأمرهم بأنْ يُعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله.
أعتقد لا بل أجزم أنَّ البطريرك ساكو يؤمن انَّ الحياة ليست سهلة، لأنًّ الإنسان قد صنع منها ما لم يكن في قصد الله عندما خلق العالم، لأنَّ الطرق التي كان يجب أنْ تكون مستقيمة، صنع منها الإنسان طرقًا ملتوية وشريرة ممتلئة بالمعـوقات وأحجار المصاعب.. وسلام الله مع الجميع.
نافع توسا – هولندا

عن ادارة الموقع

شاهد أيضاً

يوحنا المعمدان السابق ومعموديّته

يوحنا بن زكريا قبل أن يولد من امرأة كانت أمه إلى ذلك الوقت عاقراً تكرّس …