ثبت وعمق الأمل في داخلك – محاوله شخصيه واجتماعيه رائده

في عالمٍ متفجر ومضطرب، تتسارعُ فيه الأخبارُ السيئة والمؤلمة، كما تتسابق شاحناتُ الإسمنت على طرقات العراق المتهالكة.

قد يُنظر إلى الأمل كترفٍ بعيد. لكن الحقيقة الأعمق أن الأمل ليس رفاهية، بل ضرورة وجودية، هو خطَّ دفاعٍ داخلي أمام مواجهة ما لا يُحتمل.

يرى علماء النفس وعلى رأسهم (مارتن سيلغمان) أن الأمل ليس مجرد شعور إيجابي، بل مهارة عقلية ذكيه يمكن تعلمها، مثل تدريب عضلات الجسد.

 دراسات جامعة هارفارد أيضًا تؤكد أن المتفائلين الذين يحتفظون بمستوى عالٍ من الأمل، يمتلكون القدرة على مواجهة والتغلب على الصدمات النفسية وتحويل الخسائر إلى فرص ايجابيه.

الأمل هنا ليس مجرد شعور عابر، بل قوة داخلية تمكن الإنسان من الصمود والارتقاء في مواجهة التحديات؛ بل هو إصرار على تغييره.

إنه ليس حلماً رومانسياً نعلقه على جدار غرفة النوم؛ بل هو مشروعٌ عمليٌّ يبدأ من فكرة، ويتحول إلى عملٍ يومي.

عندنا في العراق، عندما ننهض كل صباح، وبالرغم  من انقطاع الكهرباء، ورغم أصوات الانفجارات، والصدمات المتتالية منذ عقود والامراض والصعوبات، ورغم القلق من الغد؛ فإننا نمارس الأمل دون أن ندرك ذلك.

 لا يزال الناس يبنون ويعلّمون ويزرعون ويتنقَّلون ويعشقون ويكتبون، وكأنهم يرفضون أن يُختطف منهم معنى الحياة من بين أيديهم 

 وفي هذه الأجواء، يصبح الأمل ليس مجرد شعور؛ بل برنامج حياتي ثابت.

ما نحتاجه اليوم، هو تحويل هذا الأمل المتناثر إلى فلسفة حياة يومية.

 وهذه الفلسفة لا تبدأ بشعارات سياسية أو خطب حماسية؛ بل تنطلق من وعي الفرد: عندما يؤمن كلُّ عراقي أن التغيير يبدأ منه هو نفسه -لا من الحكومة-، من إصلاح الذات وليس من لعنة الفساد، ومن المبادرة بدلاً من التذمُّر والتشكي 

هذه ليست مجرد نظريات تُطرح في الكتب؛ بل هي سلوك ذاتي وطبيعي يومي يظهر في الشارع العراقي:

 (شاب لم يتمكن من الحصول على وظيفة حكومية فقام بفتح ورشة صغيرة.

 أرملة تعلَّمت فنَّ الحياكة بعد فقدان زوجها.

 مهندس قرر المساهمة في حملة إعادة إعمار مدينته.

 أكاديمي نشر بحثًا عالميًّا من مختبر متواضع….)

 كل هذه امثله  وقصص واقعية، تُشكِّل ملامحَ ” مفاهيم للأمل العملي”، ذلك النوع الذي لا يرفع راية بيضاء، ولا ينتظر معجزة من الساسة او من السماء.

اروع وأجمل ما في التجربة العراقية، أنها علمتنا أن النجاة لا تعني البقاء فقط؛ بل القدرة على النهوض والتجدد والابداع. تلك الجدَّات اللواتي يبعن الزهورَ عند أرصفة المدن، والطلاب الذين يتنقلون بين الجامعات رغم التحديات، والمعلمون الذين يواصلون التعليمَ رغم تدهور الرواتب.

 هؤلاء لا يعيشون في وهم؛ بل يزرعون المعنى وسط الفوضى الحقيقي للحياة المثمرة.

ورغم استشراء الفساد في العراق وتوغله في مؤسسات الدولة، يظل الأمل ممكنًا كقوة مقاومة داخلية.

 فالتشبث بالنزاهة، والعمل الصادق، ورفض الانجرار خلف السلوكيات الفاسدة، كلها أشكال من الأمل العملي النزيه.

الأمل لا يعني تجاهل ونسيان الفساد، بل مواجهته من موقع عمل الفرد. عندما يُصرّ المواطن على الاستقامة والنخاوله رغم بيئة ملوثة، فإنه يمارس أملًا ونورا شجاعًا.

 هكذا يتحول الأمل إلى أداة تغيير صامتة، تبدأ من الوعي وتنتهي بالفعل.

اليوم، أكثر من أي وقت مضى، نحن بحاجة إلى مشروعٍ وطني، يسعى إلى إعادة إنتاج الأمل كقيمة مشتركة: يشترك فيه الفقير والغني، المتعلم والعامل، الرجل والمرأة.

 علينا أن نعلم أطفالنا أن الحلم لا يكفي؛ بل يجب أن نزرعَه ونسقيَه من ارواحنا ونحميَه من العواصف.

لا يمكننا تصوُّر السياسيين صناعَ المستقبل؛ بل المواطن هو مَن يسعى لجعل الغد أفضل من الأمس.

عندما يؤمن كل عراقي بدورِه -مهما كان صغيرًا-في بناء وطنه، نكون قد بدأنا -فعليًّا-في الخروج من نفق الإحباط الجماعي.

إن العراق، الذي أنجب أولى الحضارات في الدنيا، لا ينبغي له أن يبقى عالقًا في ماضيه المؤلم.

 بل يجب علينا أن نعيد رسم مستقبله بألوان الزاهيه والعمل المشترك؛ فـ “رحيق الأمل” ليس مجرد قصيدة تُقرأ؛ بل هو نهر دافق ينبغي أن يروي أرواحنا العطشى.

العراقي ليس بحاجة إلى تعلُّم الأمل؛ بل عليه استحضاره وتحويله إلى فلسفة عمل وحياة يومية، تعتمد على الإيمان بقدرة الفرد والمجتمع معًا، على تجاوز المحن وبناء وطنٍ أفضل. أي يجب تحويل “العناد العراقي” إلى أملٍ واعٍ ومنظم، وليس مجرد تحدٍّ فوضوي.

نعم، غدٌ أجمل لا يأتي صدفة، ولا يُهدى، وليس مجرد وعدٍ معلق؛ بل يُبنى بأيدٍ مؤمنة، وعقولٍ صبورة،  ومنتجه وقلوبٍ لا تيأس مهما طال الطريق، وهو نتيجة منطقية، عندما يتحول الأمل من مجرد شعور إلى فعل، ومن حُلمٍ إلى قرار.

مختصرٌ بليغ: العراقي لا يحتاج إلى دروسٍ في الأمل؛ بل يحتاج إلى بيئة مشجعه تُتيح له استثمار هذا الأمل، وتوسيعه، وتوريثه للأجيال القادمة، بشرط إعادة تعريف الأمل بما يتناسب مع ثِقَل التجربة العراقية.

 وعندما يؤمن بأن الغد سيكون اكيدا أفضل؛ فإنه لا يستعيد مجدَه فحسب؛ بل يصنعه من جديد. وهو إيمانٌ بأن كل سقوط فرصة جديدة للقيام.

غدٌ أجمل وأحلى فعلاً، إذا كنا جميعًا عازمين على صنعه بأيدينا. فالشمس لا تُشرق على من ينتظرها وهو نائم، بل على من يسير نحوها بعزم لا ينكسر.

وكما قال الانسان مظفر النواب: “البلاد التي لا تنهض من موتها، لا تستحق أن تُدفن!”.

الدكتور

خالد اندريا عيسى

عن د خالد عيسى

شاهد أيضاً

خبرة الموت 

لكلّ إنسان خبراته مع الموت ولا يحاول الكتاب المقدس أن يحول أنظارنا عنه بإغراقنا في …