بالواقع استطيع ان اقول بأن التسامح أضحى محوراً أساسياً في حياة البشر والشعوب على المستويين الدولي والوطني، خصوصاً أن العالم المختلف أصبح متقابلا وجهاً لوجه، بفعل العولمة وتسارع أحداث التعصب والدوغمائية التي شهدتها – ومازالت – أكثر بقاع العالم المعمورة في السنوات الأخيرة القليلة الماضية.
وتُعد ثقافة التسامح من المصطلحات الحديثة نسبياً في القانون الدولي، وهي ركن أساسي في تطبيق الديموقراطية الراقيه، وانتقلت هذه الثقافة إلى دائرة الإلزام القانوني الدولي والوطني والبشري، اللذين أوجبا المساواة بين أبناء البشر، ومنعاً للتمييز العنصري والديني والاثني.
ولم تكن لثقافة التسامح أهمية، إلا بعد أُفول واختفاء الديكتاتوريات الباليه، وانتشار الديموقراطية في العديد من الدول، لاسيما النامية منها.
ومن هذا كُله برزت الحاجة والضروره إلى ثقافة التسامح والاحترام والمحبه المتبادله، التي تتطلَّب وبحق قبول الآخر، كونها ركناً أساسياً في تطبيق الديموقراطية، وحقاً من حقوق الإنسان، وسط هيمنة ثقافة عبودية الشخص وإقصاء الآخر وبالاخص الضعيف.
إن مفهوم التسامح، كما يتداول في الفكر الأخلاقي المعاصر، اكتسب دلالة جديدة، أضحى من خلالها ينحو إلى أن يُصبح قيمة أخلاقية وقانونية عالمية، قوامها احترام المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان، والإقرار بالحُريات الأساسية للآخرين، وبحقوق الاختلاف الثقافي.
وقد استخدم بهذه المعاني مرات عدة في مواد وبنود الإعلانات والمواثيق العالمية لحقوق الإنسان، ويُضاف إلى ذلك أن مضامينه الجديدة تتسع الآن، لتصبح جزءاً من ثقافة عالمية يُسهم فيها الجميع، وهي ثقافة تسعى إلى صوغ الشروط الأخلاقية العامة، التي من شأنها أن تُسهم في تحقيق التعاون والتعايش السلمي بين الشعوب.
إن أهمية مفهوم التسامح في علاقته بواقع الحداثة السياسية والاجتماعية في عالم يتميز بالتعددية يستدعي إيجاد تسوية ناجعة لتجاوز نزعات التعصب وعدم الاعتراف بحق الاختلاف، ولما لهذا المفهوم من صِلة بموضوعَي الديموقراطية وحقوق الإنسان.
ومن هذا المنطلق، فقد تولَّى القانون الدولي لحقوق الإنسان فرض مبدأ التسامح على كل شخص عبر العديد من المعاهدات والإعلانات الدولية، وحتى دساتير الدول وقوانينها.
وبذلك دخلت ثقافة التسامح في دائرة حقوق الإنسان المُلزمة، ومَنْ يخالفها يتحمَّل المسؤولية القانونية والاخلاقيه، فلم يعد التسامح اتفاقاً بين أبناء المجتمع، بل إنه احترام للقيم الإنسانية وإلزام قانوني، ووسيلة للسلام والاستقرار والتعايش حوا العالم.
كما أكدت على مبدأ التسامح العديد من إعلانات الأمم المتحدة، منها إعلان الأمم المتحدة بشأن الألفية، وهو من الحريات الحديثة المبنية على مبدأ التنوُّع والقبول، والعديد من دساتير الدول والقوانين الداخلية.
بذلك، يمكن لمبدأ التسامح أن ينزع فتيل النزاعات المحتملة وينشر السلام والوئام، ويمكن أن يساعد على الحيلولة دون نشوء نظريات التفوق العرقي أو الثقافي، وأن يساعد المجتمعات على التغلب تدريجياً على التحيزات والصور النمطية السلبية الراسخة.
إلا أن ما يطبع علاقات الدول من عدم التكافؤ وترجيح مصالح التكتلات الدولية، ونزعة الهيمنة واستعمال القوة، ينعكس سلباً على الدول النامية، خصوصاً تلك التي لا تزال تخطو نحو النمو والاستقرار، مما يجعلها عُرضة للهيمنة والاستغلال من طرف الدول العظمى، بسبب نفوذها السياسي والعسكري داخل المحافل الدولية، ومبادئ حقوق الإنسان التي يتحدَّث عنها المجتمع الدولي وهيئاته المتخصصة، وتعقد بشأنها العديد من الندوات والمؤتمرات، وتدرج توصياتها ضمن مواثيق دولية تبقى سجينة الإطار النظري، أو تستعمل سلاحاً من طرف الدول العظمى، والمؤسسات الدولية الخاضعة لهيمنتها في مواجهة بعض الأنظمة السياسية بقصد عزلها عن المجتمع الدولي.
وما تشهده الساحة الدولية اليوم أكبر دليل على الالتزام الصريح والمُعلن لثقافة التسامح والسلم التي تدعو إليها المواثيق الدولية، في عجزٍ تام من الهيئات والمؤسسات الدولية لإيجاد توافقات وحلول للحفاظ والتأكيد على ثقافة التسامح.
إلا أن التسامح قد يتحقق على الصعيد الدولي من خلال ضمان التكافؤ والموساوات بين الدول، والحد من الهيمنة، بإعادة النظر في ميثاق الأمم المتحدة، خصوصاً ما يتعلق بتشكيل مجلس الأمن، وطريقة اتخاذ قراراته، والصلاحيات الموكلة إليه، وذلك بإعمال قوة المنطق، بعيداً عن النفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري.
وتحقيق التوازن وإقرار السلمالاجتماعي بين الشعوب يتطلَّب وضع الضوابط المناسبة لتقليل الفجوة بين الشمال والجنوب، وبناء العلاقات الدولية على أُسس عادلة تستهدف سعادة الإنسانية.
الدكتور
خالد اندريا عيسى