كنيسة الطهرة…الحلقة الخامسة والثلاثون

كنيسة الطهرة (1) الدير الأعلى من أشهر أديرة كنيسة المشرق بمدرسته “أم الفضائل” وبأعتباره القاعدة العليا لتنظيم الطقوس والصلوات الكنسية، لذا عرف بالأعلى، وتناقلت الكتب الطقسية جيلا بعد جيل عبارة: “تم الأستنساخ وفقاً لطقس الدير الدير الأعلى الذي بجوار الموصل”.

أسس الدير راهب أسمه جبرائيل (كورييل). ويأتي أول ذكر له أيام عاش فيه البطريرك ايشو عياب الحديابي كراهب سنة 650-651، لذا فأن تأسيسه يسبق هذا التاريخ. ومنذ أواخر القرن الثامن عرف أيضا بأسم مار ابراهيم عقب أنتقال ابراهيم بن شنداد اليه.

كان امتداد الدير في السابق من أسوار الموصل حيث قلعة باشطابيا وحتى بعد كنيسة الطهرة الحالية بمسافة. وبعد أن هجره الرهبان بقيت كنيسته فقط قائمة يأتي ذكر كنيسة الطهرة لأول مرة في مخطوطة أستنسخت عام 1683 وهي ترجع بهيئتها الحالية الى تجديد سنة 1744 كما نقرأ فوق باب النساء ما خلا حنية قديمة تتصدر الايوان حيث قبلة الصلاة صيفا.

برزت أثار الكنيسة الجميلة بفضل صيانة عام 1969. فالمرمر الذي يشغل واجهة المذبح والأبواب والأعمدة والواجهات والاطراف اشبه بطنافس ذات نقوش واشكال فنية رائعة. ولا تزال هي الوحيدة بين كنائس الكلدان تحتفظ بمعالم طقسية وقديمة كحجاب قدس الأقداس المرمري والبيم الذي نقل الى مؤخرتها وعارضتي التناول وكنيسة الطهرة مزار شهير يقصده المسيحيون والمسلمون للتبرك بمريم العذراء الطاهرة.

كنيسة الطهرة (2) كنيسة رائعة الطراز متينة البنيان وبالرغم عن الترميمات والاصلاحات التي لحقتها في أوقات مختلفة فقد بقيت محافظة على طرازها البنائي القديم وعلى روعة الفن العربي (الارابسك) الذي ادخل عليها في عصره الاتابكي وهو يماثل بدقته وبأشكاله ونقوشه أبنية الموصل من ذاك العهد.

ندخل الى فناء الهيكل من باب واطئ مستدير أعلاه وكان المدخل الى الفناء قبيل الحرب الكبرى مرصوفا بقنابل الطاغية طهماسب المختلفة الاحجام ثم رفعت أبان الحرب الكبرى فصهرت وأستخدمت موادها. والفناء مربع يبلغ وحده 800 م2 وعلى يمين الداخل الاسطوا او الايوانات ويقابلها الهيكل. وتظلل بابيه الرفيعين المزخرفين اروقة ويسمى بالابواب المقندلة ثم بنقوش الأزهار والأشكال الهندسية وبالكتابات الأسطرنجيلية.

ويقرأ على باب الرجال (3) سطر واحد بلأسطرنجيلية الكلدانية تعريبه: “صلاة البتول مريم أم المسيح تكون لنا سوراً وتحفظنا من الشرير” وبذيلها تجددت هذه الكنيسة سنة 2016 يونانية، ” (1705 م) وبعدها بالقرشونية بالقلم الأسطرنجيلي: ” بارك يارب وأحفظ يارب هذا الهيكل وضع فيه امنأ وسلامأ الى الدهر”. وبذيل القسم المقرنص من الباب بالكلدانية: “من أجل هذا بنى له الرب بيتا في الأرض ومن يرد أن يرى الرب فيأت الى بيته” ويليها نقوش هندسية. وعلى دائرة الباب النص الزبوري بالكلدانية: “ادخلوا في أبوابه بالشكر والى دياره بالمجد. هذا هو باب الرب الذي يدخله الصديقون” والى يسار الداخل قطعة مرمرية حديثة العهد مبنية في الجدار بجانب باب الرجال بالقرشونية: “وقد رممت هذه الكنيسة داخلا وخارجا بنفقة الفقير عبد الرحيم يوسفاني ولد توما عن روح أخويه المرحومين عبد الكريم ومنصور. يسأل من كل زائر ان يمده بالصلاة والرحمة بجاه الطاهرة العذراء سنة 1872م”.

اما الباب (4) الثاني المخصص للنساء فان نقوشه وكتاباته تماثل ماتقدم عن باب الرجال. الا كتابة قرشونية بالأسطرنجيلية لها أهميتها التاريخية. والكتابة بأربعة أسطر مقسمة الى ثلاث قطع قدرنا أن نقرا منها مايلي: “في سنة الف وسبعمائة واربعة واربعين تجددت بيعة العذراء مرت مريم الطوبانية بعون اللـه وعناية أب الأباء معمر البيع مار ايليا ومار يشوعياب مطران جهة الفاضلية (كذا) الشهير، كانوا واقفين ومجتهدين وصاروا سبب هذه البيعة والبنية والمؤمنين الاخرين خواجا زكور وكيل البطرك مار ايليا وخواجل عبد الاحد زكريا وكيوركيس وما ادوا وأيضا القسوس والشمامسة والعامية وبقية المؤمنين الأغنياء واهل الصنائع عامة”. ولنعرف القارئ (5) النجيب بالأسماء الواردة في هذه القطعة التاريخية وهي أهم ما وجدناه من الكتابات في هذه الكنيسة:

1- مار ايليا البطريرك وهو ايليا الحادي عشر مروجين من سلسلة البطاركة الابوية 1722- 1778 وقبره في مقبرة البطاركة بدير ربان هرمزد قرب القوش.

2- مار يشوعياب وهو أبن أخي البطريرك ايليا الآنف الذكر وكان ناطور الكرسي، وهو الذي سافر مع الشماس كيوركيس الصائغ وكيل البيع الى بغداد في طلب الرجوع الى الكنيسة الكاثوليكية بوساطة السيد عمانوئيل المطران الاتيني، ورُقي اخيراً الى المقام البطريركي بأسم ايليا الثاني عشر في 30 نيسان 1778.

3- زكور وهو زكريا الصائغ الذي عهد اليه الوزير الحاج حسين باشا الجليلي بترميم ما تهدم من كنيسة الطاهرة بقنابل العدو وقد ضمن له الشاعر عبد الجمال حسن تاريخاً في قصيدته بمدح الوزير الجليلي في هذا البيت:

امواله صح في التاريخ جاد بها جوزيت يا زكريا الاجر من عيسى

4 – عبد الاحد زكريا هو أبن زكريا الصائغ وأبنه المطران شمعون الصائغ الذي كان مطرانا على الموصل، وقبره في كنيسة الطاهرة بجانب الايوان على يمين الداخل الى الهيكل.

5 – كيوركيس الصائغ أخو زكريا الآنف الذكر وهو صاحب الرسالة في الطقوس الكنيسة الشرقية وفيها النقد الاذع ضد الذين ادخلوا عليها العوائد المستجدة.

أما الترميمات (6) أو التجديدات اللاحقة بهذه الكنيسة فهي كما عرفناها من الكتابات على بابي الهيكل.

أولاً: تجددت كما اشارت الكتابة التي على باب الرجال سنة 2016 يونانية، (1705م) وهو أبعد تاريخ نقراه في هذه الكتابات ولم يكن التجديد كليا فان الناظر الى واجهة الهيكل وفيها باب المذبح لا يرتاب في قدميتها الصاعدة على الأقل الى القرن الــ11 أو الــ 12 أستدلالاً من طرازها ومن نقوشها.

ثانياً: تشير الكتابة على باب النساء الى التجديد الواقع سنة 1744 وهذا كان بعد التخريب الذي سببته قنابل نادر شاه في عقد الكنيسة.

ثالثاً: القطعة المنفردة بجانب الباب الأول وتشير الى ترميم جزئي سنة 1872 على نفقة عبد الرحيم يوسفاني.

ويلاحظ في الهيكل أن التجديد والترميم لم يغيرا الطراز الأنشائي القديم فأن العواميد وأقواسها الحادة والحنايا الجصية التي تطيف بالهيكل فوق الأقواس مع نقوشها الجصية البارزة وهي أشبه بزوايا مختلفة الاشكال مكررة أصغر فأصغر تبدو أنها من زمن تجديدها الاول سنة 1705 اذا لم نقل أنها اقدم من ذلك.

أما الواجهة (7) الأمامية وكلها من قطع المرمر الأزرق الصقيل فهي ولا شك من زمن أقدم نظرا الى طابعها الفني الذي يرقى بنا الى العصر الاتابكي. فانك تجد على المصطبة او الدرج الى باب المذبح قائمتين مرمريتين تشكل كل منهما زاوية، مخرمتين بنقوش هندسية وقد شهد بأتقان صناعتها سياح عالميون أعجبوا بفن التخريم الشرقي وقالوا عنها تماثل روعة نفائس التخريم في قصر الحمراء.

وباب المذبح مقرنص وفوقه قطع المرمر المؤصصة والمزخرفة بأزهار وبأشكال هندسية من طراز الفن العربي وعليها كتابة قرشونية دقيقة محشاة بزخرف الزهر قدرنا أن نقرأ منها ما يأتي:

“على مذبح القدس يكون ذكران وتزييح البتول مريم أم المسيح”. وفوق هذه الكتابة حنية كبيرة مسدودة متوجه بنقوش هندسية وأزهارمحفورة وعلى افاريزها أبتهالات بالقرشونية ولم نجد عليها تاريخاً لصناعتها. وعلى يمين المذبح حنيتان يقابلهما داخل المذبح قطعتان مرمريتان على الأولى بالقرشونية: “ها هنا ميناث مار كورييل الطوباوي” وهذا دليل على أن الكنيسة كانت هيكلا للدير الاعلى. وعلى الثانية بالقرشونية ايضاً: “ها هنا ميناث العذراء مرت مريم لها الطوبى”. والى يسار المذبح حنيتان أخريان يقابلهما من الداخل كتابة كلدانية: “هنا ميناث القديسين” وقابلتها: “ها هنا ميناث مار اوراهام الطوباوي”.

أما داخل المذبح، الضارب في الأرتفاع فهو خال من الزخرف ويلوح لنا من طرازه أنه حافظ على قدميته أكثر من بقية أقسام الكنيسة.

المصادر: (1) كنائس الموصل الأب الدكتور يوسف حبي – بغداد 1980 ص13. (2) تاريخ الموصل المطران سليمان الصائغ، الجزء الثالث ص3. (3) المصدر2 ص130. (4) المصدر2 ص131. (5) المصدر2 ص131. (6) المصدر2 ص132. (7) المصدر2 ص133.

الموسوعة الكلدانية- كتاب تاريخ الكلدان صفحة 120 – 124.

الناشر/ شامل يعقوب المختار

عن شامل يعقوب المختار

شاهد أيضاً

عام جديد، فرصة جديدة لك للتوبه

دعونا في عام جديد لا نضيّع هذه الفرصة فالرب دائما ينتظرنا متشوقا لسماع صوتنا فلنندم …