اذا كان هناك راتب شهري او تكريم مادي مقابل محاولة مساعدة ومتابعة حياة الآخرين، لأصبح معظمنا من أصحاب الملايين، فنحن نعمل في هذه المهنة بدوام يومي كامل طوال النهار دون عطلة أو راحة، فنبدأ ابتدا بتشخيص مشاكل اهلنا وزوجاتنا وأطفالنا، ونكمل الصباح بوضع برنامج لتطوير شامل لزملائنا في العمل، وفي المساء نجلس مع الأصدقاء لنقدم لهم استشارات مفيده مجانية عن كيفية إدارة حياتهم وبيوتهم بشكل أفضل، وحين ننتهي من كل هذا الجهد المضني والعصبي في إصلاح العالم، نتساءل بذهول عن سبب عدم تحسن أحوالنا الشخصية رغم خبرتنا الواسعة في حل مشاكل الآخرين.
هذه المهنة الشاقة والمتعبه تتطلب ان يكون للعاملين لها مهارات وخبرات خاصة ومتطورة نتقنها جميعاً بلا استثناء، فنحن بارعون في اكتشاف مواطن الضعف عند الآخرين من النظرة الأولى،
وماهرون جداً في وصف العلاج المناسب لكل حالة بدقة علمية مذهلة،
ومبدعون في شرح الطريقة الصحيحة للحياة بتفاصيل دقيقة ومعقدة،
ولدينا قدرة عجيبة وغريزية على معرفة ما يجب على الآخرين فعله في كل موقف،
حتى لو كنا نحن أنفسنا عاجزين تماماً عن تطبيق نفس النصائح الذهبية على حياتنا الخاصة والشخصية، فالغريب والمضحك أن بصيرتنا تصبح حادة جداً وثاقبة ودقيقه حين ننظر للآخرين،
ونصاب بعمى مفاجئ وكامل حين نواجه مرايانا الخاصة
ما يجعل هذه المهنة مغرية هو الشعور بالتفوق والحكمة والارشاد التي تمنحها لنا، فحين نقدم النصائح للآخرين نشعر وكأننا نملك الحلول السحريه لكل شيء، وكأن حياتنا هي قدوه ومثالاً يُحتذى به، وكأننا وصلنا لمرحلة من النضج والكمال تؤهلنا لإرشاد البشرية كلها، وفي هذه اللحظات ننسى تماماً أن لدينا مشاكل عديده وعويصه معلقة منذ سنوات لم نحلها، وعادات سيئة لم نتخلص منها، وأهدافاً لم نحققها، وأحلاماً لم نحرك ساكناً من أجلها، ولكن هذا لا يمنعنا من الشعور بالثقة التامة بقدرتنا على توجيه الآخرين.
الطريف والمفارق في الأمر أن عملاءنا في هذه المهنة الغريبة لا يطلبون خدماتنا في معظم الأحيان أو يرغبون فيها أصلاً، بل نحن من نقتحم حياتهم بحماس شديد وثقة عمياء ومبالغ فيها ونبدأ في تقديم خدماتنا المجانية والاخويه دون استئذان أو حتى مقدمات، ونشعر بالإحباط الشديد والغضب المكبوت حين يرفضون تطبيق نصائحنا الثمينة، أو حين يستمرون بعناد في عيش حياتهم بالطريقة التي يريدونها بدلاً من الطريقة المثلى التي نراها صحيحة ومناسبة لهم، وأحياناً كثيرة نصل لمرحلة الغضب الصريح منهم لأنهم لا يقدرون جهودنا المبذولة بإخلاص في إصلاحهم وتطويرهم، وكأنهم مكلفون بقبول تدخلنا الكريم في شؤونهم الخاصة والحميمة.
ربما الوقت قد حان فعلاً لنفكر جدياً في تغيير هذه المهنة نهائياً، أو على الأقل في تقليل ساعات العمل فيها بشكل كبير والتركيز أكثر وبجدية على مشروعنا الشخصي والعائلي المهمل، فإصلاح الذات مهمة شاقة ومعقدة تحتاج تفرغاً كاملاً ووقتاً طويلاً وصبراً لا ينتهي وحكمة نادرة، وربما لو خصصنا نصف الجهد الذي نبذله بسخاء في إصلاح الآخرين لإصلاح أنفسنا وحياتنا، لحققنا نتائج مذهلة ومفاجئة في حياتنا الخاصة، ولأصبحنا قدوة حقيقية وملهمة بدلاً من مجرد خبراء نظريين ومحترفين في تحليل وتشخيص حياة الغير دون تطبيق عملي على واقعنا.
الدكتور
خالد اندريا عيسى