ندوة توقيع كتاب المطران ميشال قصارجي السامي الوقار

القوانينُ الأولى للكنيسة الكلدانية…. تحفةٌ من نفائس الماضي العريق
بقلم المونسنيور رافائيل طرابلسي
النائب الأسقفي العام في أبرشية بيروت الكلدانية
يوم الإثنين 22 أيار 2017، وقّع سيادة رئيس الطائفة الكلدانية في لبنان، المطران ميشال قصارجي، كتابه المعنونَ “القوانين الأولى للكنيسة الكلدانية بحسب إليا الجوهري” وذلك في قاعة الاحتفالات في جامعة الحكمة، فرن الشباك، عند الخامسة عصراً. تحدّث في الندوة كُلٌّ من سيادة المطران بولس مطر رئيس اساقفة بيروت للموارنة بالإضافة الى سيادة المطران جورج صليبا راعي أبرشية جبل لبنان وطرابلس للسريان الأرثوذكس، كما كانت كلمةٌ للمؤلّف.
ادار الندوة الدكتور انطوان سعد أمين عام جامعة الحكمة، بحضور رسمي سياسي وكنسي رفيع المستوى زيّنه كُلٌّ من ممثل فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، الأستاذ رفيق شلالا وممثل غبطة البطريرك مار بشاره بطرس الراعي الكلي الطوبى سيادة المطران حنا علوان السامي الوقار، ناهيك عن مشاركة كثيفةٍ لذوي الاختصاص العاملين في الشأنَين القانوني واللاهوتي.
ينضوي الكتاب تحت لواء منشورات جامعة الحكمة وهو يتمتَّع بإخراجٍ أنيقٍ ويزيّن غلافَهُ رسمٌ لآباء المجمع النيقاوي الأوَّل، كما يضمُّ بين دَفَّتَيْه المواد القانونية موضوع المؤلّف باللغتين العربية والفرنسيّة.
يقدّم الكتاب للقارىء الكريم تحقيقاً عن المجموعة القانونية العربيّة الأقدم عهداً، على ما وصلت الى اكتشافه الدراسة، وذلك في اطار ٍ علميٍّ يضيءُ على نفائس الماضي بسراج اليوم الحاضر، من خلال قراءةٍ نقديةٍ تجمعُ بين بساطة التعبير وبلاغة المعنى المسكوب في قالبٍ قشيبٍ سهل المنال.
في الأوانِ الذي نشهدُ فيهِ على تَشْويهٍ ممنهجٍ ومستمرٍ لحضارة بلاد الرافدين، التي صدّرت للعالمِ قانونَ حامورابي، وهو الأولُ من نوعِهِ في تاريخِ البشريةِ، وفي زمنٍ رديءٍ نعاينُ فيه نشوبَ حربٍ ضَروسٍ طالتْ أرضَ العراقِ وبلادَ الشامِ، يُقدّم لنا المطران ميشال قصارجي مؤلَّفاً وضَعَهُ أسقفٌ من كنيسةِ المشرقِ، رعى ابناءها في دمشقَ في القرنِ التاسعِ، ودوَّن فيه باللغةِ العربيةِ مجموعةً قانونيةً مستقاةً من السينوديكون الموضوعِ ايامَ البطريركِ الجاثليق تيموتاوس الكبير في القرن الثامن، فاماط اللثامَ عن التعليمِ العامِ لكنيستهِ حولَ الموضوعاتِ التي تطالُ الشأنَ القانونيَّ وتحتوي ايضاً على مواضيعَ عقائديةٍ ورعويةٍ وتربويةٍ وطقسيةٍ وسواها… إنه المطران ايليا الجوهري المعروف بالدمشقي.
هذه المجموعةُ القانونيةُ التي عَرَفتْها كنيسةُ المشرقِ بجناحَيها الكلداني والأشوري، تتمتَّعُ بلا شكٍ بطابَعٍ مسكونيٍ بامتياز، اذ إنَّ واضَعها يتّصف بانفتاحِهِ على التراثاتِ الكنسيَّةِ المتنوِّعَةِ، وينقُلُ ما يراهُ مناسباً ونافعاً لأبناء بيعتهِ بلغةِ الضادِ، إذ إنَّ السُريانيةَ لم تكن في متناولِ الجميعِ في هاتيكَ الديارِ وتلكَ الحقبةِ، ولئن تَكُنْ هي اللغةَ الأم.
هذه الفكرةُ الفريدةُ مِنْ نَوعها والسابقةُ لعصرِها، الا وهيَ مخاطبةُ الشعبِ بلُغَةٍ يَفْهَمُها، هو تعبيرٌ صارخٌ عن الهمِّ الرعويِ الذي كان مُتَّقداً في صدرِ ذاكَ الأسقفِ الذي استبق بقرونٍ طويلةٍ تعاليمَ المجمعِ الفاتيكاني الثاني في العنصرةِ الجديدةِ التي ارسىَ أسُسَهَا منذُ خمسةِ عقودٍ.
لأجل ذلك، فإننا لا نستطيعُ أن نُخرجِ هذه الدراسةَ الفريدةَ عن نطاقِ التوقِ الجديّ الى لقاءِ الآخرِ والذي تُرجِمَ بخُطواتٍ واقعيةٍ وملموسةٍ قام بها كُلُّ من الطرفَين الكاثوليكي والأشوري، سواءَ على مستوى الكنيستَين الكلدانية والأشورية أو على مستوى الكنيسة الكاثوليكية الجامعة والكنيسة الأشورية. وهنا لا بدّ من الإشارة الى الإعلان الخريستولوجي المشترك الذي صدر عن الكنيستَين الكاثوليكية والأشورية، بشخص البابا القديس يوحنا بولس الثاني، والبطريرك المثلث الرحمات مار دنخا الرابع في روما، في 11 تشرين الأول 1994.
هذه الوثيقةُ التي وضعتِ المدماكَ الأولَّ في بناءِ الوَحْدَةِ المرجوَّةِ، قد أُعيْدَ تسليطُ الضوءِ عليها في 2/10/2014، خلال لقاءِ البابا فرنسيس والبطريركِ المثلث الرحمات مار دنخا الرابع في الفاتيكان في إطارِ تشارُكِ الكنيستَين الأشورية والكاثوليكية لمعاناةٍ واحدةٍ يرزَحُ تحتَ نيرِها الشرقُ، لا سيَّما مسيحيّو العراقَ وسوريا.
لرُبما اعتَبَر البعضُ أنَّ كنيسةَ المشرقِ ظَلَّتْ بعيدةً عن الحركةِ المجمعيَّةِ والنشاطِ التشريعيّ والفكرِ العقائديّ الذي كانتِ القسطنطينيةُ وانطاكيا أو سواهما من المناطقِ والكراسي الرسوليةِ مَرْتَعاً له، في حينِ أنَّ هذه المجموعةَ القانونيةَ التي قام المطران قصارجي بتحقيقها وتحليلها ونشرِها تُقدّم اولَ مجموعةٍ قانونيةٍ متكاملةٍ عرفتْها كنائسُ الشرقِ باللغة العربيةِ وقد استخرجَ المؤلِّفُ إليّا الدمشقيُ من السينوديكون المذكورِ، ما وجده نافعاً ومفيداً لأبناء أبرشيتهِ الدمشقيَّةِ التي انتقل اليها بعد رعايته لأبناء كنيستهِ في مدينة اورشليم.
ناهيك عن اهميتها بالنسبة الى كنيسة المشرق الأشورية – الكلدانيةِ، فهذه المجموعةُ هي الأقدمُ عهداً على الاطلاقِ بين مثيلاتها باللغةِ العربية وإنَّ صائغ هذه المجموعة – ايليا الدمشقي – قد اعتمد منهجيَّةً انتقائيةً هادفةً وواضحةً، فجعل مؤلَّفَهُ زاخراً بكافةِ المواضيعِ الرعويَّةِ والتعليميَّةِ والعقائديَّةِ والقانونيَّةِ والطقسيَّةِ وغيرها.
هذه المجموعةُ القانونيةُ تُقْسَمُ الى قسمين: أحدهُما يتناولُ القوانينَ الغربيَّةَ المدرجةَ في كنيسة المشرق وهي تُشكّل القسمَ الذي حُلّل في الدراسة الحاضرة، والقسمُ الآخرُ هو الشرعُ الخاصُ لهذه الكنيسةِ وهو يشكل القسمَ الذي تناوله آخرون في غير اطروحةٍ وكتابٍ ومرجعٍ.
أما مؤلَّفُ المطران قصارجي فهو من جزئين اثنين: الأولُ يتناولُ في قسمينِ قوانينَ الآباء الغربيين (بالنظر الى موقع كنيسة المشرق) ثم الترجمةَ والتعليقاتِ ودراسةً نقديةً مع مراجعَ دقيقةٍ تُغني القارىَء وتُعَدُّ مرجِعاً قانونياً مهمّاً.
واما الجزءُ الثاني فيحتوي على الإطارِ التاريخيِ الذي عاش فيهِ الكاتبُ الجوهريُّ وعلى المراجِعِ القانونيَّةِ المعتمدةِ في كنيسةِ المشرقِ ومؤلفاتٍ لاهوتيَّةٍ تعودُ لإيليا الدمشقي.
اعتمد المطران قصارجي في دراسته هذه على عددٍ لا بأس به من المخطوطاتِ وجدها في العراق والفاتيكان واكسفورد وبرلين وغيرها… وعلى مخطوطاتٍ غيرِ منشورةٍ وتُعدُّ مصدَر غنىً وتراثٍ كبيرٍ لكنيسة المشرق.
استطاع ايليا الدمشقيُّ ان يستفيدَ من القوانينِ التي ابرزتها المجامعُ خارجَ بلادِ ما بينَ النهرينِ، ليُشكّلَ منها سلسلةً قانونيةً، وادرك ان نتاجَ المجامِع التي انعقدت خارجَ حدودِ موطنه الأصليِّ ينبغي ان تُشكّلَ إرثاً مشتركاً لجميعِ الكنائسِ المسيحيَّةِ، فأفادَ من خدمتهِ في القدس والشام ليكتشف غنى التراثاتِ الكنسيَّةِ الأخرى ويَنهلَ من مَعينها، وهو القائلُ إنَّ كنيسةَ المسيحِ هي واحدةٌ لا تتجزّأ.
ان هذا الكتابَ فريدٌ من نوعه، لما يحمل من عمقٍ وبعد رؤيا وانفتاح، فالجوهريُ ابدعَ بعمله فجاء جداريةً من الفسيفساء القانوني الخلاّب المتجانس القِطَعِ ينبهرُ الرائي أمام روعة اتقانهِ.
لقد قدَّمتْ كنيسةُ المشرقِ الأشوريةُ – الكلدانيةُ لكنيسةِ المسيحِ اقدمَ انافورةٍ عرفتْها المسيحيَّةُ عبرَ نافور القديسَين اداي وماري (نافور شرار) الذي استهوتْ دراستُه البابا بندكتوس السادس عشر حين كان عميداً لمجمع العقيدة والإيمان في الدوائرِ الفاتيكانيةِ، فأظهرَ معالمَ فرادتهِ ومواطنَ عمقهِ اللاهوتيِّ وهو الذي لا يحتوي في نصّه الأصليِّ على الكلامِ الجوهريِّ المعروفِ بكلامِ التأسيسِ، واعلنه تراثاً ليترجياً تستطيعُ الكنيسةُ الكاثوليكيَّةُ استعمالَهُ كما أُلِّفَ دون زيادةٍ أو نقصانٍ، اذ هو بحقٍ قداسٌ مسكونيٌّ.
وفي دراسة المطران قصارجي، نكتشفُ أقدمَ مجموعةٍ قانونيَّةٍ عربيَّةٍ هي مزيجٌ من نواميسِ كنيسةِ المشرقِ، هي مجموعةُ اسفارٍ وصحائفَ، بل هي مكتبةٌ كاملةٌ تصلُح أن تكونَ موسوعةً لجميعِ الباحثينَ والمفكّرينَ والمشرقيين، وبخاصةٍ للمتبحرينَ في علمِ القانونِ والفُقْهِ والاجتهادِ.
واليوم تعيشُ كنيسةُ المشرقِ بُعداً جديداً في الحياة المسكونية، الا وهو مسكونيةُ الدمِ والشهادةِ تُضافُ الى المسكونيَّةِ القانونيَّةِ والليترجيَّةِ والعقائديَّةِ…
عسى ان يكون كتابُ المطران ميشال قصارجي نسمةَ خيرٍ من نسائمِ الروحِ القدسِ الذي يوجّهُ سفينةَ الكنيسةِ التي تَمْخُرُ عِبابَ هذا العالمِ المضطربِ، علّها تصلُ سريعاً الى موانىءِ السلامِ الحقيقي وشواطىء الوَحْدَةِ المرجُّوةِ التي عبّر عن رغبته بتحقيقها الهُنا ومعلّمُنا … ذاك هو رجاؤنا ورجاءُ المؤمنين لا يخيب.

عن ادارة الموقع

شاهد أيضاً

تقرير وصور قداس سيادة المطران يوسف توما في كنسية روتردام في هولندا

تقرير وصور خاص بالخورنة: خلال زيارة سيادة المطران يوسف توما رئيس أساقفة كركوك والسليمانية الى …