لا شك أن إقدام قداسة الحبر الاعظم البابا فرانسيس على زيارة العراق في ظل أوضاع صعبة، أمنيا وصحيا واقتصاديا وسياسيا، يكتسب أهمية استثنائية، عراقيا وعالميا، خصوصا وأنها المرة الأولى في التأريخ التي يقوم بها بابا الفاتيكان بزيارة العراق، وهي زيارة تتضمن رسائل معنوية عميقة، للعراق وجيرانه والمجتمع الدولي بشكل عام.
البابا فرانسيس معروف بالرقي الإنساني والتسامح والسعي نحو التصالح بين الناس، وليس هناك أدل على تسامحه وتقبله الآخر المختلف من اختياره الاسم “فرانسيس” فور تسنمه هذا المنصب الروحي الرفيع. لقد اعتاد الباباوات أن يختاروا اسما تأريخيا يكون ملهِما لهم، ودالا على توجهاتهم، وهذا الاسم ذو دلالة ومغزى عميقين يعرفها المطلعون على تأريخ الأديان.
اختار جورج ماريو بيرغوليو، البالغ من العمر 84 عاما، اسم “فرانسيس” تيمنا بالقديس فرانسيس الأسيسي، الذي اكتسب أهمية استثنائية في التأريخ المسيحي في القرن الثالث عشر، إذ كان ملهِما بفكره، ومؤسسا للعديد من الطرق الدينية، وداعيا إلى التسامح بين الناس جميعا. وقد زار مصر عام 1219 والتقى بالسلطان ناصر الدين الكامل، واتفق معه على وضع حد للحروب الصليبية، ودشن عصر السلم والتسامح بين المسلمين والمسيحيين. ويحتفل أتباع الديانة الكاثيوليكية بعيد القديس فرانسيس في الرابع من أكتوبر كل عام، وهو اليوم التالي لوفاته.
لقد ترك القديس فرانسيس الأسيسي إرثا هائلا من التسامح يعود إليه المصلحون والروحانيون والمؤمنون في كل الأزمان، والأكثر شهرة بين إرثه الديني هو الدعاء البليغ المعبِّر، الذي تلته مارغريت ثاتشر وهي على عتبة 10 داونينغ ستريت يوم توليها رئاسة الوزراء في الرابع من أيار/مايو عام 1979، وكانت بريطانيا حينها تعاني الانقسام والصراع الطبقي والإضرابات العمالية:
“حينما توجد الخصومة، علينا أن نشيع الوئام، وحينما يوجد الخطل، علينا أن نبتغي الحقيقة، وحينما يساورنا الشك، علينا أن نستعين بالإيمان، وحينما ينتابنا اليأس، علينا أن نزرع الأمل”.
آتيا من الأرجنتين، التي تتميز بتنوع ديني وإثني وتسامح مثير للإعجاب، فهي البلد الذي انتخب رئيسا من أصل عربي، كارلوس منعم، ومنحه صلاحيات لم تتوفر لغيره سوى الرئيس المحبوب، خوان بيرون، ومتسلحا بمبادئ القديس فرانسيس الأسيسي، ينطلق البابا فرانسيس لإشاعة السلام والمحبة والوئام في البلدان التي تعاني الاضطرابات والأزمات، وليس هناك بلد أكثر معاناة من العراق الذي ابتلى بالدكتاتورية والتسلط، رغم تنوعه السكاني والثقافي، وعانى الفقر والشح المالي رغم ثرائه الطبيعي، وشاع فيه الضيق الثقافي رغم التنوع القومي والديني والسعة الفكرية التي شهدتها أرض الرافدين على مر العصور، وقاسى العنف والشدة رغم توفر كل ظروف الاستقرار والوئام، وتعرض للتدخل الخارجي في شؤونه، رغم كونه كيانا حضاريا راسخا منذ آلاف السنين، ومن أوائل الدول التي نالت استقلالها في العصر الحديث، ويفترض بأنها أصبحت دولة متماسكة تساهم في دعم الاستقرار والسلام في المنطقة.
هناك فرح غامر وتفاؤل مفعم بالأمل يهيمنان على مشاعر العراقيين، من كل الطوائف والقوميات والمناطق، خصوصا الشباب، بأن زيارة البابا ستفتح صفحة جديدة أمام العراق، صفحة تتسم بالتسامح وغياب التطرف والعنف والتدخل الأجنبي. لكن هذه الأحلام والطموحات قد تفوق قدرات البابا وتتجاوز مهمته الروحية. المسيحيون العراقيون يشعرون بأن زيارة البابا ستعزز من موقعهم في البلد، وتؤكد وجودهم وأهميتهم، خصوصا وأن أعدادهم قد تناقصت بشكل خطير خلال العقود الأخيرة، فبعدما كان المسيحيون يشكلون أكثر من 6% من السكان، تناقص عددهم إلى أقل من 2%.
الحكومة العراقية ومعها الجهات السياسية المؤيدة لها (والمهيمنة عليها) تشعر بأن زيارة البابا نجاح يسجل لها، وتأمل أن يعزز من مواقفها وسلطتها، لكن ترددها، رغم قدرتها، في التعامل الحازم مع أعداء الدولة، سيبقيها ضعيفة، خصوصا وأنها تقدم الدليل تلو الآخر على ضعفها. المنتفضون على النظام السياسي يشعرون بأن زيارة البابا سوف تدعم موقفهم الساعي إلى إصلاح النظام والقضاء على الفساد وإبعاد الجماعات الفاسدة الحالية عن السلطة. أما أتباع إيران فهم الوحيدون الذين يغردون خارج السرب، ولا يخفون حنقهم من مجيء البابا، لأن زيارته تؤكد استقلال العراق وتميزه الثقافي، وتعزز هويته الحضارية الثقافية المستقلة، وتنوعه العرقي والديني، وارتباطه بالعالم الحر، واهتمام العالم به، وهذا ما لا يروق لإيران التي تسعى لأن يكون العراق تابعا لها وجزءا من مشروعها الأيديولوجي الطائفي التخريبي.
العراقيون يريدون حياة عصرية خالية من العنف، يتوفر فيها الحد الأدنى للعيش الكريم، من خدمات أساسية كالصحة والتعليم والسكن وفرص العمل والخدمات البلدية، ويريدون استقرارا ونهاية لعصر المليشيات الإيرانية التي تسرح وتمرح في البلد منذ عام 2003، وتقتل وتخطف حسب أهواء قادتها وتوجيهات قادتهم الإيرانيين، وتتصرف بالدولة كما تشاء. ويريدون إيقاف التدخلات الإيرانية في الشؤون العراقية وإنهاء هيمنتها على الاقتصاد والسياسة وموارد الدولة، التي أصبحت الآن فقيرة وغير قادرة على تقديم أبسط الخدمات لمواطنيها، بما في ذلك حمايتهم من جائحة كورونا.
طموحات النظام الإيراني تتناقض مع طموحات العراقيين، الذين يريدون دولة ديمقراطية تتوفر فيها الحريات العامة والخاصة، ويعيش فيها المرء آمنا على نفسه وماله، وقادرا على كسب عيشه بالطرق المشروعة الميسرة وفق القانون الذي يسري على الجميع دون تمييز.
تتضمن زيارة البابا، إضافة إلى لقاء كبار المسؤولين، الصلاة في مقام النبي إبراهيم في مدينة أور الأثرية في الناصرية، والصلاة في كنيسة سيدة النجاة العريقة في بغداد، التي كانت قد تعرضت إلى حادث إرهابي ارتكبه تنظيم داعش عام 2010 وأودى بحياة 60 مصليا، وكذلك اللقاء بالمرجع الشيعي علي السيستاني في النجف، وربما اللقاء بقادة الطوائف الدينية الأخرى، ثم زيارة عاصمة إقليم كردستان، أربيل، وهي مدينة أثرية موغلة في القدم، تأسست قبل 7000 عام وجاء ذكرها في الألواح السومرية (أورابيلا)، ويقطنها عدد كبير من المسيحيين العراقيين.
رسالة البابا إلى شعب العراق، حتى وإن لم يقلها، هي أنكم أيها العراقيون أبناء حضارات عريقة لها فضل على البشرية جمعاء، وعليكم أن تفخروا بانتمائكم إلى العراق، وتعتزوا باستقلاله وتعززوا من قوته واستقراره، فهو متميز في تأريخه وجغرافيته وإنجازاته. أولى الحضارات البشرية، وهي الحضارة السومرية، أقيمت على أرضكم، في أور، التي ولد فيها النبي إبراهيم، الأب الروحي للأديان السماوية جميعا، وورد ذكرها في القرآن الكريم (وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى).
كما أن أولى المدن في تأريخ البشرية، وهي أريدو، نشأت في العراق (وفي الناصرية) قبل 7400 عام. أما أوروك، التي مضى على تأسيسها 6000 عام وتقع حاليا في محافظة السماوة شمالي الناصرية، والتي اخترعت فيها أولى صيغ الكتابة، فكانت هي الأخرى أحد مراكز الحضارة السومرية.
بلدكم أيها العراقيون سُنَّت فيه أولى القوانين، واختُرعت فيه علوم الفلك والطب والرياضيات، وبدأت فيه الزراعة وتدجين الحيوانات البرية وأُنشأت فيه القنوات المائية الإروائية، وأقيمت فيه المعابد، من زقورة أور إلى برج بابل، وشيدت فيه إحدى عجائب الدنيا السبع، الجنائن المعلقة في بابل (أو نينوى كما برهنت دراسة حديثة).
بلدكم احتضن الأديان جميعا، ونشأت وترعرعت فيه المذاهب الفلسفية والدينية والأدبية واللغوية، وبرز فيه الفلاسفة والأدباء والعلماء الذين وضعوا اللبنات الأولى للعلوم الإنسانية والطبيعية. أنتم أمناء على هذا البلد الذي يهمنا جميعا، شرقيين وغربيين، مسيحيين ومسلمين، وأتباع الديانات الأخرى، فكل ثقافة وكل دين له أثر في العراق ومقدسات وآثار وتأريخ.
ومن هنا، ليس صحيحا أن يصبح العراق ضعيفا، فهذا ما لا يليق به، ولا بالحضارة البشرية التي تسمح بضعفه، أو تتوانى عن مساعدته والدفاع عنه. وليس صحيحا أن يغيب القانون عن البلد الذين سُن فيه أول قانون، أو يغيب العلم والحكمة والاستقرار عن بلد انطلق منه الإشعاع إلى بلاد الله الواسعة. عليكم أن تعلموا بأن العالم كله يقف معكم في صيانة استقلال العراق وتعزيز استقراره، وإقامة دولة ديمقراطية عصرية تخدم شعبه وتحقق الرفاهية لجميع أبنائه وتساهم في إرساء دعائم الأمن والرخاء في المنطقة والعالم.
أما رسالة البابا إلى إيران فهي باختصار أن عليكم أيها الإيرانيون أن تعلموا أن الأديان إنما جاءت من أجل أن يعم الأمن والسلام والأخوة الإنسانية ربوع العالم، وأن المبادئ الدينية السمحاء ليست حكرا على فئة دون أخرى، أو مذهب دون آخر، فالمبادئ والقيم التي تبشر بها الأديان واحدة لا تتجزأ، ولا اختلاف عليها. القيم الدينية متاحة لكل بني البشر الذين أدركوا بعد آلاف السنين من المعاناة والصراع والاقتتال، بأن الأجدى والأنفع أن يتبع كل فرد الدين والعقيدة التي يرتضيها حسب قناعاته وفهمه وبما تسمح به ظروف حياته.
إن التدخل في شؤون الدول الأخرى، والتوسع عبر توظيف الدين لأغراض سياسية، واستغفال البسطاء، لم يعد متاحا في العالم المعاصر، فهذه مرحلة تجاوزها بنو البشر منذ مئات السنين، وقد ترسخ مبدأ عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى منذ إبرام “سلام ويستفيليا” عام 1648، الذي تلى الحروب الدينية في ألمانيا، التي راح ضحيتها 60% من الشعب الألماني. كما تجاوزها الشعب الفرنسي بصدور مرسوم ناتيس عام 1598 بعدما ذهب ملايين الفرنسيين ضحايا للصراعات الدينية. كما تجاوزتها أسبانيا وأمريكا والهند وكل شعوب الأرض، فعالم اليوم يقوم على العلم والتنمية والتعاون وتبادل المنفعة، وليس على الصراع والاقتتال والتغالب، فليس هناك غالب في التناحر والصراع والاقتتال، بل الجميع فيها مغلوبون وخاسرون.
المجتمع الدولي لن يسمح بأن تتجاوز الدول الكبيرة على الأصغر منها، ولا القوية على الأضعف منها، وهذه دول العالم من حولكم، صغيرة وكبيرة، تتعايش وتتعاون من أجل خدمة مصالح شعوبها، والكل ملتزم بمبادئ “سلام ويستفيليا” التي تمنع التدخل في شؤون الدول الأخرى، والتي أصبحت ركنا مهما من أركان القانون الدولي وأحد أهم المواثيق الدولية.
الأديان جميعا تدعو إلى السلام والمحبة، والأولى بمن يدعي الإيمان واتباع القيم السماوية، أن يعمل بهذه المبادئ السمحاء وينبذ العنف ويمتنع عن التدخل في شؤون الدول الأخرى، ولا يمارس الخداع والمراوغة ويرتكب الجرائم ثم يتبرأ منها متوهما بأن العالم غير مطلع على حقيقة أفعاله.
أما رسالة العراقيين إلى البابا فهي شكوى تتعلق بمعاناة إنسانية طالت وثَقُلت، وأنظمة سياسية فاسدة دمرت بلدهم وأرهقتهم، وتدخلات دولة جارة، لا تتوقف عند حد. العراقيون يشكون إلى البابا فساد أحزابهم وسرقتها أموالهم وتحالفها مع إيران ضدهم، وممارستها القتل والخطف والابتزاز ضد كل ذي رأي مخالف، أو نزيه يسعى لخدمة الناس. من الضروري أن يلتقي البابا بممثلين عن العراقيين المنتفضين كي يسمع منهم مباشرة، وعلى قوى تشرين أن تشكل وفدا كي يلتقي بالبابا ويسلمه بيانا يلخص فيه ما جرى ويجري في العراق، كي يطلع العالم عن قرب على أوضاعه.
الجماعات الفاسدة سوف تحاول الاستفادة من زيارة البابا، وسوف تدعي الفضيلة امامه، وتتشدق بالمبادئ والقيم والشرف والدين، فهذا ما تفعله ليل نهار، وأصبحت متمرسة فيه. كما ستدعي بأن البابا أشاد بإنجازاتها وامتدح سيرتها، ولكن يجب أن يعرف البابا الحقيقة الكاملة، كي يبلور تصورا قريبا من الواقع يمكِّنه من فهم حقيقة ما يجري، وكيف يمكن أن تصاغ الحلول الناجعة للمشاكل القائمة.
زيارة البابا فرصة تأريخية نادرة تحصل في ظرف عصيب، ويمكن العراقيين أن يستفيدوا كثيرا منها، لكن الانقسام السياسي العميق الذي يعانيه العراق، واستمرار إيران في التدخل في شؤونه وزعزعة استقراره، قد يتسببا في هدر أي نفع يمكن أن يتولد عنها، لكنها، مع ذلك، سوف تسلط الأضواء على العراق وتقدم فرصة جديدة للعالم كي يفهم مشاكله ويتعاون مع أهله لحلها.
بقلم : د. حميد الكفائي / باحث وأكاديمي