يحتفل المسيحيون عامة في الرابع عشر من شهر ايلولمن كل عام بعيد يُعرف بــ “عـيـد الصليب”.ويتم الاحتفال به عادة بصلوات طقسية خاصة بالصليب، أمّا المسيحيين الشرقيين فلهم تراثٌ اضافي عـدا الصلوات الطقسية والاحتفالات الدينية.
يتحدد تراثهم هذا بإشعال النيران فوق السطوحطوال ليلة العيد، تذكيرًا بما حصل بعد عثور القديسة هيلانة على صليب الرب يسوع الحقيقياي الذي صُلب عليه جسد يسوع المسيح على جبل الجلجلة – في اورشليم (اشتهر هذا الصليب بين جماهير المسيحيين بــ “الصليب الحي”). سبق للقديسة هيلانة أنْ اتفقت مع ابنها الامبراطور الروماني “قسطنطين” الذي اوفدها للبحث عن الصليب في اورشليم على انْ تشعل النار على السطوح المنطقة بعد العثورعليه بصورة مؤكدة. عندئذ سيرى النار المشتعلة سكان القرى والمدن المجاورة على التوالي فيشعلونبدورهم النار وهكذا دواليك سينتقل خبر العثورعلى الصليب بسرعة حتى يصل إلى ابنها، ذلك لأنه لم تتوفر حينذاك وسائط ابلاغ الأخبار بسرعة كما هو الحال في أيامنا هذه.
إنَّ سبب قيام الملكة القديسة هيلانة بالبحث عن صليب الرب يسوع الحقيقي هو أمر صادر من ابنها الامبراطور للاستمرار في البحث عن الصليب المقدس حتى العثور عليه بصورة موثقة، واما سبب اهتمام الامبراطور نفسه بهذا الموضوع هو انتصاراته الباهرة على الأعداء في حروبه معهم والتي تحققت بعد اخفاقات ومعارك خاسرة، فأوحي له ليلاً في الحلم أن يرفع علامة الصليب على الرايات التي تتقدم جيوشه. ولما عمل بما اوحي له تحققت انتصاراته، وهكذا أصبح الصليب علامة النصروالغلبة على الأعداء.
إننا لا نجد للصليب من ذكر على مدى ايام حياةيسوع التي طالت 33 عاما إلا خلال الساعات الاخيرة من حياته اي ما لا يزيد العشرين ساعة فقط، ولكن رغم قلتها كان الصليب الذي كان رمزًا لعقاب المجرمين والمتمردين سابقًا أصبح رمزاً للانتصار بموت الرب يسوع عليه، فأنهى بواسطته حياته بالجسد فعلًاوختم رسالته ولكن به بدأ انتصاره الخالد الذي تكلل بقيامته المجيدة ركيزة الإيمان المسيحي التي اعتمدتها كنيسة المسيح المظفرة التي تأسست على يد الرسل بأمرٍ منه أعلنهقبل صعوده إلى السماء.
منذ اجيال غائرة في القدم خصصت كنيسة المشرق للصليب فترة زمنية خاصة بالصلاة للصليب وثبتتها بين الفترات الزمنية السنويةالمؤسس عليه الطقس السنوي الخاص بها. عُرفت هذه الفترة بــ “زمن الصليب”. وقوامها بضعة اسابيع تأتيبعـد أزمنة: الصيف وموسى وايليا…وتسبق زمن تقديس البيعة الذي به تنتهي السنة الطقسية لتبدأ من جديد بزمن البشارة وفترته أربع اسابيع تسبق الميلاد.
منذ ان أعلن رفع الصليب راية للنصر اتخذه المسيحيون قاطبة شارة للفخر والاعتزاز والمحبة وطلب المعونة، اضافة إلى قدرته العجائبية لتحقيق الحاجات والغلبة على الأعداء. أنَّ الصليب اول حركة يعلّمها الوالدان لطفلهما. رغم اختلاف اتجاهات رسمها لدى الكنائس بسبب الاختلاف في تفسير مفهوم بعض العقائد لدى بعض الكنائس أحيانًا. يرفع المسيحيون الصليب فوق بنايات كنائسهم ومباني مؤسساتهم كما يزينون به داخل بيوتهم ومخادعهم للبركة وللتذكـيـر بآلام الرب يسوع وموته وقيامته المجيدة منشدين دومًاقائلين: “المسيح قام من بينالأموات ووطأ الموت بالموت ووهـب الحياة للذين في القبور”.
قدرة الصليب الحي والمعجزات التي تحققت بهوعليه واعتزاز المسيحيين قاطبة به دفع بالحاقدين ليجعلوا الصليب هدفهم الاول في التخريبوالتدمير عند اعلان محاربتهم للمسيحيين. لذا نجدهم يـُهاجمون الصليب بشراسةوبربرية غير مسبوقة لينزلوا الصلبان المرفوعة فوق الكنائس والمؤسسات المسيحية فيبداية هجومهم بوحشية واحتقار. والدليل على ذلك ما فعلته الميليشيات التي اشتهرتبــ “داعـش” في مدينة الموصل عام2014، هذا في زمننا الحاضر. أمّا في الماضي، فلقد كان الصليب الحي هدفًا مهمًا وثمينًا لأعداء المسيحيين فناله الأسر لسنوات ثمَّ حـُرر وأعيد للكنيسة بموجباتفاقات موقعة.
مقالات لا يُحصى عددها وكتب ومجلدات ضخمة كُتبت وصدرت ونشرت كان موضوعها الرئيسي الصليب وبلغات كثيرة لا يمكن حصرها.
من بينها اخترت فقرات كتبها أولاً المرحومالقس بطرس حداد تحدث فيها عن الصليب ومعناه الروحي فقال:” الصليب آلة عذاب وموتكان يُعلّق عليه العبيد والمارقون والثائرون. لذلك جاء في الكتاب المقدس التعليم التالي: “المعلق (على الصليب) ملعون من الله”. كما اشار إلى ذلك ايضًاالرسول بولس في رسالته إلى أهل غلاطية راجع 3: 13. ثمّ يواصل الأب حداد: “غيرانَّ الصليب عندنا نحن المسيحيون يُشير إلى الفداء المتحقق بالمسيح. وأيضًا كماجاء في قوله: “ما عندنا نحن المخلصين فالصليب قدرة الله”. وقوله الآخر: “الصليبمحا ماكان علينا من صكّ الوصايا، فألغى ذلك الدين عندما كان الرب يسوع معلّقًاعليه ويديه مثبتتين عليه (على الصليب) بالمسامير “……
أمّا ثانيًا، فإني قد اخترت ما كتبه سيادةالمطران جاك اسحق الجزيل الاحترام، الشهير كــ: أكاديمي علمي متخصص في شرح وتفسيرطقوس كنيسة المشرق، وله باع طويل في تأليفوكتابة كتب عديدة اصدرها ونشرها لتثقيف وتعليم جماهير كنيسة المشرق بجناحيها. قالسيادته عن الصليب الظافر في التقليد المشرقي الخالي من صورة يسوع المصلوب والتيعوضها ثبت المسيحيون الشرقيون الدررالثمينة والحجارة الكريمة على الصلبان التي كانوا يُعلقونها في رقابهم مبررينعملهم ذاك بقولهم: “ان الصلبان المشرقية لفتت انتباه المرسلين الكاثوليكوالبروتستانت الغربيين لخلوها من صورة المسيح المعلّق عليه متألمًا ومنازعًا،بينما هم قد اعتادوا ان تكون الصلبان عندهم في الغرب مرسومٌ عليها صورة المسيحالمكلل بالشوك”. ثمَّ أضاف المطران جاك يقول عن الصليب: “إنَّه رمزالمسيح الحيّ أيّضًا، أيّ أنـَّه لا فقط رمزٌ لآلامه حسبما يُظن. ولكن ايضًا رمزا لقيامتهالمجيدة وهذا يعني ان الصليب أصبح خاليًا من رسم المسيح المتألم والمنازع، هذهكانت نظرة المسيحيين الشرقيين وهذا كان جوهر إيمانهم بالصليب. إنَّ معنى هذه النظرة وهذا الإيمان لدى المشرقيين أنهم لا ينظرون ويؤمنن انَّ الصليب يُشير إلىآلام وموت المسيح فقط معتبرين ذلك نقطة نهاية، بل يتخطون ذلك ويذهبون إلى ما هوأبعد، أيّ إلى قيامته المجيدة، حيث انَّ المسيح خلـّصنا بقيامته عبر آلامه وموته،لذا انهم يعتبرون أنفسهم أولاد القيامة”.
قلنا في اعلاه انَّ الامبراطور قسطنطين وضعصورة الصليب على رايات جيوشه كرمزٍ لانتصاراته وتخليدًا لها. ولكن اضافة على ذلك عندما يُعـرض الصليب ورسم صورة يسوع عليه يكون رأسه دائمًا مكللًا بإكليل ولكن لاكأكاليل النصر المزينة بالأزهار الورود الذكية الرائحة التي كان يضعها الشعـب علىرؤوس قادة الجيوش العائدين من المعارك منتصرين وعلى رؤوس جنـود جيوشهم، بل بإكليل الشوك الذي تكون اشواكه الحادة غائرة في رأسه وجبهته ودماؤه يتفجر نزفها فتسيل على وجهنتيه. مع ذلك لا زال يُعتبر إكليل الرب يسوع رمز انتصاره على الموت والخطيئة .كم اتمنى ان أرى يومًا وأظنـه ليس بعيدًا، رجال الدين المسيحيين يضعون على رؤوسهم أكاليل شوكٍ لتشعرهم بما شعر به يسوع من ألم، علمًا انَّه لم يضع يسوع يومًا أثناءحياته الأرضية تاجًا على رأسه. وحتى يوم دخوله اورشليم باحتفال جماهيري مهيب أُستقبل بحفاوة وبأغصان الزيتون رمز السلام. بالمناسبة اذكر ترتيلة طقسية جميلة للغاية تـُرتل عادة في زمن الميلاد، ترجمة عباراتها تقول: “يا أيّها الملوك وياأبناء الملوك ارفعوا من على رؤوسكم التيجان وهلموا اسجدوا للابن البكر، القدوس الذيظهر من العذراء البتول، وأتى ليخلص العالم”. هذا ما فعله الملوك القادمون منالشرق (الذين غالبًا ما يُعرفون بــ “المجوس”).
الاحتفالات الدينية بطقوس كنيسة المشرقغالبًا ما تستوجب ارتداء ملابس وثياب خاصة وبألوان محددة لها دلالات معينة، منهاالملابس الخاصة بإقامة الذبيحة الإلهية وأخص منها البدلة العلية التي يضعهاالمحتفل بإقامة الذبيحة. هذه البدلة ترمز إلى الصليب الذي حمله الرب يسوع وصعد بهجبل الجلجلة ليكون عرشه الذي سيموت عليه. ما يؤسف له اننا بدأنا نرى بعض الكهنة يتخلون عن وضع هذه البدلة على اكتافهم بتبرير الحداثة في فهم الطقوس وأنّ الربيسوع يوم تأسيس سرّ القربان المقدس لم يلبس زيًّا خاصًا رغم عظمة الحدث. لكن هذاالرأي مردود لأن لو واصلنا قراءة تفاصيل هذا الحدث حسب رواية الإنجيل (راجع انجيل يوحنا) سنراها تذكر انَّ يسوع بعد اتمام تأسيس هذا السرّ العظيم واعطاء الرسل وصيته ليفعلوا ما فعله ذكرى لحياته معهم وتعاليمه لهم. ونطرًا لعلمه ان ساعةانتقاله من هذا العالم إلى ابيه قد أتت فقام بعد العشاء وخلع “ثيابه” واخذ منديلاً فائتزر به ليغسل أرجل تلاميذه وليعطيهم درسًا أخير في المحبة والتواضع. من هذايمكننا ان نستنتج انه كان يلبس ملابس مختارة للاحتفال بعيد الفصح حسب الشريعة اليهودية.
الوقوف امام الصليب وصورة يسوع المكلل بإكليلا الشوك تدفعنا للتأمل في الساعات الأخيرة التي قضاها معلّقًا ومثبتًا على الصليب بمسامير حادة دُقـّت في يديه ورجليه، صبورًا غيرٍ متذمرٍ رابط الجأش وفيًا لأمهمريم البتول القديسة ونسمعه:
1 – يصلـّي مع داود ويقول: “إلهي إلهيلماذا تركتني !؟
2 – مستجيبًا لطلب أحد اللصين الذي حاورزميله ووبخه لأنه شكّ في قدرة يسوع الإلهية فقال له: “انْ كنتّ ابن الله فانزل من على الصليب وأنزلنا معك”. فأجابه رفيقه ألا تخجل من طلبك هذا. نحننلنا بحق عقابنا هذا. أمّا هو فلا يستحق ايّ عقاب لأنه رجل بار ولم يفعل إلاّالخير”. ثم أردف يقول يا رب أذكرني يوم مجيئك” فأجابه يسوع المنازع:”الحق الحق اليوم تكون معي في الفردوس”. أمّا للص الآخر فلم يجبه بل بقي صامتًا ليذكرنا بجوابه للإبليس يوم جاءه ليجربه بعد صوم طالت مدته اربعين يومًا فقال:” إنـَّه مكتوب أنْ لا تجرب الربّ إلهك”
3 – يصرخ طالبا الماء إذْ قال: “أناعطشان” فسقوه خلّاً ممزوجًا بمرارة، فلم يستسغ طعمه. وهذا برهان ساطع لبقاء يسوع وهو على الصليب رغم العذبات الجسدية والنفسية المهولة، مسيطرًا على احساساته البشرية كإنسان كامل القوى والطبيعة البشرية.
4 – أيضًا ورغم الامه بقي يسوع وفيًا لأمهومفكرًا بمستقبلها حيث لم يبق لها من مُعين بعد اختفائه من حياتها الأرضية. فأودعامر رعايتها ليوحنا قريبه – وهو أحد رسله وأحد كتبة الأناجيل الأربعة. كما أنه ضمن تصرفه هذا، جعلها أمـًا لكل من آمن به -بيسوع – لأنـنـا اخوته أمامه وأمام ابيه السماوي.
5 – نسمعه يطلب من ابيه الغفران لكل من اشتركفي تعذيبه وموته حيث قال:” ابتي اغفر لهم لأنَّهم لا يدرون ما يفعلون”.بالحقيقة تصرف يسوع هذا وهو في مراحل حياته الأخيرة تصرف مدهش لا يعقله العقل البشري، ولكن بالنسبة ليسوع تصرف جدًا طبيعي لأنه سبق ان علـّم رسله وتلاميذه -ومنخلالهم لنا نحن أيضًا -أثناء تبشيره: “أن نُحب اعداءنا ونصلي لأجلهم ونباركهم لا أنْ نلعنهم”.
6 – وعندما رأى يسوع انه قد أتـمَّ وانجز كلما تعهد بإنجازه رفع صوته ليقول: “ها قد تـمَّ”. هذه العبارة عميق معناهاوهدفها، لأنها خلاصة للتدبير الإلهي المخطط مسبقًا لتحقيق خلاص البشرية.
7 – أخيرًا وقبل ان يسلّم روحه قاليسوع:” أبتاه بين يديك استودع روحي” ثم أمال رأسه ولفظ انفاسه.
عظيم انت يا صليب يسوع المقدس وعظيمة هيقدرتك ورفيعة هي مكانتك نرجو بركتك وحمايتك لجماهير المسيحيين وخاصة منهم الذين يحاربونهم الأعداء الحاقدون بسبب ايمانهم بالذي صلب وعُلـق على عارضتيك المكونة لهيكلك الذي أصبح سريراً لجسد ربنا يسوع المسيح حتى الرمق الأخير. آمين
من الكتابات الخاصة بيسوع المسيح المسجى علىالصليب هذه المناجاة التي اعجبت بها: “مناجاة الأديب والشاعر الخالد جبرانخليل جبران ونصها في أدناه:
“الإنسانية ترى يسوع الناصري مولودًا كالفقراء عائشًا كالمساكين مهانًا كالضعفاء مصلوبًا كالمجرمين فتبكيه وترثيه وتندبه وهذا كل ما تفعله لتكريمه”.
منذ تسعة عشر جيلاً (مقارنة بين زمن حياة جبران حين كتابته هذه المناجاة وبين زمن موت الرب يسوع على الصليب) والبشر يعبدون الضعف بشخص يسوع، ويسوع كان قويًا ولكنهم لا يفهمون معنى القوة الحقيقية. ما عاش يسوع مسكينًا خائفًا ولم يمتْ شاكيًا متوجعًا بل عاش وصُلب متمردًا ومات جبـّارًا. لم يكن يسوع طائرًا مكسور الجناحين؛ بل كان عاصفة هوجاءتكسر بهبوبها جميع الأجنحة المعـوجة. لم يجيء يسوع من وراء الشفق الأزرق ليجعلالألم رمزًا للحياة، بل جاء ليجعل الحياة رمزًا للحرية وللحق والحرية. لم يخفْ يسوع مضطهديه ولم يخشَ أعداءه ولم يتوجع أمام قاتليه…
لم يهبط يسوع من دائرة النور الأعلى ليهدم المنازل ويبني من حجارتها الأديرة والصوامع، ويستهوي الرجال الأشداء ليقودهم قسوسًا ورهبانًا….
لم يجيء يسوع ليعلم الناس بناء الكنائس الشاهقة والمعابد الضخمة في جوار الأكواخ الحقيرة والمنازل الباردة المظلمة، بلجاء ليجعل قلب الإنسان هيكلاً ونفسه مذبحًا وعقله كاهنًا.
هذا ما صنعه يسوع الناصري وهذه هي المبادئ التيصُلب لأجلها مختارًا، ولو عقـُل البشر لوقفوا اليوم فرحين متهللين منشدين اهازيج الغلبة والانتصار…
إكليل الشوك على رأسك هو أجلَّ وأجمل من تاج بهرام والمسمار في كفّك أسمى وأفخم من صولجان المشتري، وقطرات الدماء على قدميك اسنى لمعانًا من قلائد عشتروت. فسامح هؤلاء الضعفاء الذين ينوحون عليك لأنهم لايدرون كيف ينوحون على نفوسهم، واغفر لهم لأنّهم لا يعلمون أنَّكَ صرعت الموت بالموت ووهبت الحياة للذين في القبور. “راجع عنها عزيزي القارئ كتاب جبران بعنوان العواصف”
نافع توسا – هولندا 11/9/2920