الأمثال بين رمزية المعاني وقيمتها التعليمية والأدبية …. كيف وردت في الكتاب المقدس واهميتها التربوية.

المثل: هو موجز للموعظة أو للعبرة، “قد يتقبل الكثيرون النصح، لكن الحكماء فقط هم الذين يستفيدون منه” والبعض منه قول السائر بين الناس، المتمثل بمضربة، أي بالحالة الأصلية التي ورد بها الكلام. كما أنه قصة قصيرة بسيطة تهدف إلى توضيح أمر أو إيصال مفهوم معين. وهو في الأصل تشبيه واستعارة تمثيلية مستمدة من الطبيعة أو من الحياة اليومية، يسهل على الذاكرة اختزانه. وتختلف الأمثال باختلاف الشعوب والحضارات والعصور. والمثل أمر شائع في آداب كل الشعوب.

الامثال مِنْ أكثرِ أساليبِ التعبير انتشاراً في مجتمعات العالم قديما وحديثا، وهي تعكسُ مشاعرَ الشعوبِ على اختلافِ طبقاتِها وانتمائِها، وتُجسدُ الأفكارَ والعاداتِ والتقاليدِ والمعتقداتِ ومظاهرِ الحياة فيها، فهي بذلك عُصارَةُ حِكْمَةِ الشُّعوبِ وذاكرَتِها. وتَتَّسِمُ الأمثالُ بسرعةِ انتشارها وتداوُلِها مِنْ جيلٍ إلى آخر، وانتقالِها من لغةٍ إلى أخرى عبرَ الأزمنةِ والأمْكِنةِ، بالإضافةِ إلى إيجازِ نصِّها وجمالِ لفظِها وكثافةِ معانيها. كما حَظِيَتْ الأمثالُ بعنايةَ الأدباءِ والمفكرينِ نظراً للأهميةِ التي يكتسِبُها المثلُ في ثقافةِ الشعوب وفي التصدي للظواهر الاجتماعية فيها فضلا عن الحاجةَ إليها لأسبابٍ أوجبَتْها أو حوادثَ اقتَضَتْها، فأضحى المثلُ كالعلامةِ يُعرَفُ بها. لقد اعتنت الشعوب بالأمثال، فكان لكل ضرب من ضروب حياتهم مثل يستشهد به كما في “تذكر أن اليوم هو الغد الذي كنت قلقًا عليه بالأمس” وبلغت عناية بها حدا مميزا إذ كان المثل بالنسبة لهم يجسد لغة اجتماعية، إن معنى “مثل”* في معجم اللغة يختلط بين المحسوس والمجرد: «المماثلة، والشبه والنظير، والعبرة، الهدف، الوصف والإبانة، وهذا يعني ان الامثال “جمل من القول المقتضب من أصلها أو المرسلة بذاتها، فتتسم بالقبول وتشتهر بالتداول فتنتقل عما وردت فيه إلى كل ما يصح قصده بها، من غير تغيير يلحقها في لفظها وعما يوجه الظاهر إلى أشباهه من المعاني، فلذلك تضرب وإن جهلت أسبابها التي خرجت عليها”.

الفرق بين المثل والحكمة : المثل هو الاحتجاج و الحكمة التنبيه والإعلام والوعظ، فالمثل فيه الحقيقة الناتجة عن تجربة، أما الحكمة فهي تحديد لشرط سلوكي وقيمة أخلاقية، وقد تصدر عن رؤية حدسية دون تجريب واقعي “النجاح هو تحقيق ما تريده، أما السعادة فهي الرغبة في ما تحصل عليه” “التجارب لا تقرأ في الكتب ولكن الكتب تساعد على الانتفاع بالتجارب” وهي تمتاز بطابع شخصي، في المثل عمقا خاصا لا تدركه الحكمة، الحكمة تفيد معنى واحدا بينما يفيد المثل معنيين: الظاهر فهو ما يحمله من إشارة تاريخية إلى حادث معين كان سبب ظهوره، والباطن فهو ما يفيد معناه من حكمة وإرشاد وتشبيه وتصوير، “لا تستطيع أن تضحك وتكون قاسيًا في وقتٍ واحد” .

الأمثال الشعبية وقيمتها الأدبية واستخدامها في التعليم :

للأمثال الشعبية قيمة أدبية كبيرة، ولقد أدرك الأوائل قيمة هذا الكنز اللغوي البليغ فجمعوها في كتب للأمثال، استخدام الأمثال الشعبية أسلوب متبع لتقريب الأفكار وتوضيح المفاهيم، أمثال موجودة في التراث الشعبي للأمم، تنتقل جيل إلى جيل، تلخص الخبرة الإنسانية، وتساعد في وضع قواعد السلوك ومعاييره، وفوائدها في التعليم:

1- تقريب الفكرة إلى أذهان المتلقين، والربط بعلاقات اجتماعية واضحة.

2- تلخيص العبرة تثبيتها في الذاكرة.

3- إعمال العقل كالتفكير والتدرج والاتعاظ والانفعالات والعواطف والوجدان يحفز بذل الجهد في تلقيها وتقبلها.


المعنى التربوي للأمثال في الكتاب المقدس: المثل في العهد القديم: لم يكن استخدام الرب يسوع للأمثال أمراً مستحدثاً، فإننا نجد في العهد القديم بعض الأمثال، كما في: مثل الكروم الذي انتج عنباً رديئاًن “مَاذَا يُصْنَعُ أَيْضًا لِكَرْمِي وَأَنَا لَمْ أَصْنَعْهُ لَهُ؟ لِمَاذَا إِذِ انْتَظَرْتُ أَنْ يَصْنَعَ عِنَبًا، صَنَعَ عِنَبًا رَدِيئًا؟ (إش 5: 1- 7)، مثل الأشبال لتصوير حال ملوك يهوذا، “فَلَمَّا رَأَتْ أَنَّهَا قَدِ انْتَظَرَتْ وَهَلَكَ رَجَاؤُهَا، أَخَذَتْ آخَرَ مِنْ جِرَائِهَا وَصَيَّرَتْهُ شِبْلًا، فَتَمَشَّى بَيْنَ الأُسُودِ. صَارَ شِبْلًا وَتَعَلَّمَ افْتِرَاسَ الْفَرِيسَةِ. أَكَلَ النَّاسَ”(حز 19: 2- 9)، مثل الأسير المفقود الذي ضربه أحد الأنبياء لأخاب الملك “وَإِنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي الأَنْبِيَاءِ قَالَ لِصَاحِبِهِ: عَنْ أَمْرِ الرَّبِّ اضْرِبْنِي. فَأَبَى الرَّجُلُ أَنْ يَضْرِبَهُ”.. الى… “وَفِيمَا عَبْدُكَ مُشْتَغِلٌ هُنَا وَهُنَاكَ إِذَا هُوَ مَفْقُودٌ». فَقَالَ لَهُ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ: هكَذَا حُكْمُكَ أَنْتَ قَضَيْتَ”(1 مل 20: 35- 40). المثل في العهد الجديد: واضح من استخدام الرب يسوع للأمثال هو توضيح حقائق روحية، “فكل إنسان يحب القصة” والأمثال التي نطق بها كانت ما يقرب من ثلث أقواله، ويتبين لنا ان عدد الأمثال في الأناجيل ما بين خمسين وستين مثلاً، بناء على التعريفات المختلفة للمثل، وان أغني الأناجيل في الأمثال هو إنجيل لوقا، إذ به نحو 24مثلا، منها خمسة عشر مثلاً وردت فقط به. وبإنجيل متي عشرون مثلاً، منها أحد عشر مثلاً وردت فقط به. وبإنجيل مرقس ثمانية أمثال منها مثلان وردت فقط به. ومع أن كلمة “مثل” أو “أمثال” لا توجد في إنجيل يوحنا، إلا أن الرب يسوع استخدم بعض التشبيهات لنفسه، مثل الراعي الصالح، والباب، وخبز الحياة، والكرمة. وتأسيسا على ما تقدم يجدر الاشارة هنا ان الرب يسوع المعلم عند استخدامه الأمثال في التعليم كأن يراعي ما يلي:

1- أن تكون الأمثال مألوفة لدى الشعب، أو قريبة من أنفسهم وواضحة.

2- أن يكون المثال متمشيا مع المفهوم الذي يقدمه، حيث هناك صورة رئيسية هناك أثر لها .

3- أن يكون إدخال المثل إلى البناء المعرفي مفيدا في المواقف التعليمية المستقبلية.

4- أن يكون المثال موجزا خاليا من التفاصيل غير المرتبطة به.

5- أن يكون للمثال قوة تأثير تحافظ على استمرار الانتباه وحسن الحفظ واستدعاء المعارف.

والأمر مُلفت للنظر ان الرب يسوع الوحيد الذي استخدم الأمثال بهذه الكثرة في تعليمه في العهد الجديد، “فَكَلَّمَهُمْ كَثِيرًا بِأَمْثَال قَائِلًا: هُوَذَا الزَّارِعُ قَدْ خَرَجَ لِيَزْرَعَ”، ” فَتَقَدَّمَ التَّلاَمِيذُ وَقَالُوا لَهُ: لِمَاذَا تُكَلِّمُهُمْ بِأَمْثَال”؟ “مِنْ أَجْلِ هذَا أُكَلِّمُهُمْ بِأَمْثَال، لأَنَّهُمْ مُبْصِرِينَ لاَ يُبْصِرُونَ، وَسَامِعِينَ لاَ يَسْمَعُونَ وَلاَ يَفْهَمُونَ”، “قَدَّمَ لَهُمْ مَثَلًا آخَرَ قِائِلًا: «يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ إِنْسَانًا زَرَعَ زَرْعًا جَيِّدًا فِي حَقْلِهِ، “قَدَّمَ لَهُمْ مَثَلًا آخَرَ قَائِلًا: يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ حَبَّةَ خَرْدَل أَخَذَهَا إِنْسَانٌ وَزَرَعَهَا فِي حَقْلِهِ”، فليس في الرسائل أي أمثال، وإن كان بها الكثير من التشبيهات والاستعارات، “قَالَ لَهُمْ مَثَلًا آخَرَ: يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ خَمِيرَةً أَخَذَتْهَا امْرَأَةٌ وَخَبَّأَتْهَا فِي ثَلاَثَةِ أَكْيَالِ دَقِيق حَتَّى اخْتَمَرَ الْجَمِيعُ، هذَا كُلُّهُ كَلَّمَ بِهِ يَسُوعُ الْجُمُوعَ بِأَمْثَال، وَبِدُونِ مَثَل لَمْ يَكُنْ يُكَلِّمُهُمْ، لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِالنَّبِيِّ الْقَائِلِ: سَأَفْتَحُ بِأَمْثَال فَمِي، وَأَنْطِقُ بِمَكْتُومَاتٍ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، حِينَئِذٍ صَرَفَ يَسُوعُ الْجُمُوعَ وَجَاءَ إِلَى الْبَيْتِ فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ قَائِلِينَ: فَسِّرْ لَنَا مَثَلَ زَوَانِ الْحَقْلِ، فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: اَلزَّارِعُ الزَّرْعَ الْجَيِّدَ هُوَ ابْنُ الإِنْسَانِ”،(مت: 13:، 3، 10، 13، 18، 24، 31، 33، 34، 35، 36، 37).

واستخدامه لهذه الأحداث التي يرونها تجري أمامهم، مثل الزارع الذي خرج ليزرع أو الصياد الذي يصطاد…. إلخ. في صور تُثَبِّت المفهوم التعليمي الذي يريده المعلم ولو كان موجودًا ليومنا لكانت أمثاله من حياتنا اليومية. وهذه طريقة لنتأمل أعمال الله حولنا و لنرى حكمة الله فيها و ولقد اتبعت الكنيسة المقدسة نفس أسلوب الرب يسوع في قراءاتها الطقسية لهذه الامثال واستخدام البعض منها في مواعيد تقويمية كالزراعة وأخرى كمفهوم الوصايا و الاضطهادات والآلام، ونسمع في الامثال ومعانيها تُرسم أمام عيوننا ونتأملها.

ولم يقتصر تفسير الأمثال على الآراء حول مقاصد الرب يسوع او حول تفسير الأمثال التي نطق بها، بل الذهاب الى ابعد من ذلك فمثلا يفسر أوريجانوس مثل السامري الصالح “وَإِذَا نَامُوسِيٌّ قَامَ يُجَرِّبُهُ قَائِلًا: «يَا مُعَلِّمُ، مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ”؟……….. (لو 10: 25-37)، هكذا: “الإنسان الذي وقع بين اللصوص هو آدم، وكما أن أورشليم تمثل السماء، فإن أريحا- التي كان الإنسان نازلاً إليه- تمثل العالم. واللصوص هم أعداء الإنسان، أي الشيطان واتباعه، والكاهن يمثل الناموس، واللاوي يمثل الأنبياء. أما السامري الصالح فهو المسيح نفسه. والدابة التي أركب الرجل الجريح عليها، ترمز إلي جسد المسيح الذي يحمل آدم الساقط. والفندق يرمز إلي الكنيسة، والديناران هما الآب والأبن. ووعد السامري بالرجوع ثانية، يشير إلي مجيء المسيح ثانية”. ويوجد ما يشبه ذلك في كتابات العديد من المفكرين ولكن اخرين عارضوا هذه التفسير كالآباء الأنطاكيون (وبخاصة تيودور الموبسوسي ويوحنا فم الذهب)، ولكن رغم ذلك فقد ساد التفسير المجازي بشيء من الحداثة.


وأخيرا عزيزي القاريً انت مدعوا للتفتيش في ثنايا الكتاب المقدس عن الامثال والاقتداء بها في الحياة، و يعلمنا الرب يسوع واجب مداومة الولاء والسهر في انتظار بركتها، وأن نكون على استعداد دائم لمجيئه في أي وقت، ولنتأمل أعمال الله حولنا و لنرى حكمة الله فيها… و ان ندعوا من الاب القدير ان يمنحنا المقدرة لنتعلم منها كيف السلوك المعزز لحياتنا في الايمان وان نبادر لنقلها لمسامع الاخرين ونعرفهم بأهميتها وقدرتها على التغيير، يا رب بارك جهود كنيستك المقدسة في العمل مع المؤمنين وتنشيط الحياة الروحية فيهم ….الى الرب نطلب


د. طلال كيلانو
————————————————————————————–

* السيوطي في تعريف المثل نقلا عن المرزوقي صاحب كتاب “شرح الفصيح”. *مجمع الأمثال للميداني، المستقصي في أمثال العرب للزمخشري، جمهرة الأمثال للعسكري.

عن د. طلال فرج كيلانو

شاهد أيضاً

يوحنا المعمدان السابق ومعموديّته

يوحنا بن زكريا قبل أن يولد من امرأة كانت أمه إلى ذلك الوقت عاقراً تكرّس …