التواضع

يقول الرب يسوع في انجيل لوقا البشير الاصحاح 18-9
” كل من يرفع نفسه يتضع ومن يضع نفسه يرتفع ”

التواضع صفة نبيلة يجب أن يتحلى بها كل إنسان يبحث عن الرفعة والسمو في المجتمع، فإنجازات الإنسان هي من تتحدث عنه، وكلما تواضع للآخرين ازداد مكانة بينهم. وليس من السهل أن يكون الإنسان متواضعاً، إذ غالباً ما يحاول الكثيرون التحدث عن أفعالهم وإنجازاتهم ويبالغون فيها، في حين يتطلب التواضع العمل بصمت والتعامل مع الآخرين بعطف، مهما بلغت منزلتهم المهنية والاقتصادية والاجتماعية. التواضع صفة من افضل وأجلّ الصفات التي يتصف بها الإنسان، وهي تدل على طهارة النفس وصفاء القلب ونقاء السريرة، وتدفع إلى المودة والمحبة والمساواة بين أفراد المجتمع، وتنشر وتعزز الثقة والترابط الإنساني بينهم، وتمحو الحسد والبغض والكراهية من قلوب الناس.
تعكس تصرفات الإنسان مع الآخرين صورته الداخلية، ويميل المتواضعون بشكل عام إلى تقديم مصالح الآخرين على مصالحهم، ومحاولة تقديم العون لهم دون انتظار أي شيء في المقابل، ولا يرغبون بالحديث عن ذلك حتى مع عوائلهم واصدقائهم او في المجالس او المحافل العامة، كما انهم يهتمون بغيرهم أكثر من اهتمامهم بأنفسهم. يظهر المتواضعون تعاطفاً كبيراً مع قضايا الآخرين، وأظهرت عدة دراسات أجريت في اكثر من بلد منذ العام 2012م أن الأشخاص المتواضعين أكثر ميلاً لمساعدة الآخرين من الأشخاص الفخورين بأنفسهم. كما أظهرت الدراسات بأن تحقيق السعادة يكون أسهل عندما لا نسعى إليها، والأشخاص المتواضعون بطبيعتهم يشعرون بالرضى عن أنفسهم ويدفعهم ذلك إلى الشعور بالسكينة والسعادة.
يتمتع المتواضعون بشبكة واسعة من العلاقات الاجتماعية والمهنية المميزة، فعادة يفضل الإنسان المتواضع الابتعاد عن الأشخاص النرجسيين، الذين يرغبون بالحديث عن أنفسهم والتفاخر بإنجازاتهم بشكل دائم. المتواضعون يتميزون بالقناعة والقدرة على الصبر لتحقيق الأهداف المنشودة، كما يؤمنون بأن الأشياء الجيدة بانتظارهم في المستقبل. وعندما يضطر المتواضعون إلى اتخاذ قرارات هامة في حياتهم، يضعون نصب أعينهم بعض القيم الأخلاقية كالعفو والرحمة والتسامح، وغالباً ما تحكم القيم الأخلاقية النبيلة تصرفاتهم. يعتقد البعض أن التواضع يقود إلى الضعف، إلا أن هذه الصفة هي أهم مصادر القوة، فالإنسان المتواضع قادر على شغل مناصب قيادية والتعامل مع الآخرين كل على حسب شخصيته، كما أنه يكتسب حب واحترام مرؤوسيه نتيجة لذلك.
التواضع يجعل الحياة سلسة لا يوجد فيها حقد او كره او ضغينة لأي شخص، ولهذا دعانا الله ان نكون متواضعين لجلالته ولبعضنا البعض، وأنه مهما حصل الانسان على نعم كثيرة في حياته فمثواه التراب الذي خلق منه، فلا داعي ان نكون متكبرين ومتجبرين على الآخرين، فالحياة فانية وكل خطوة نخطوها سوف نحاسب عليها. علينا ان نتأمل اسلوبنا في الحياة بين الحين والآخر وان نضع انفسنا في موضع الآخرين، نتمنى الخير للجميع، ونعطي دائما من الخير الذي يعطيه الله لنا، ونقف بجانب من يحتاج الى مساعدتنا، وننشر الطاقات الإيجابية في المجتمع حتى ينعم الجميع بالراحة والسعادة، ونتمنى للجميع ما نتمناه لأنفسنا، وبهذا السلوك الإنساني الراقي والحضاري نكون اشخاص محبين للحياة، ولن تحمل قلوبنا الكره او الحقد او حتى الغيرة مما يحصل عليه الآخرون.
يقول احد الحكماء: في التواضع خلاص من أغلال السلطة، وراحة من سطوة الاستغلال، وخروج من دائرة الذات إلى مساحة الكل الإنساني. في التواضع رفعة وشرف ومقام تمكين، وارتقاء للحواس الزاهدة. وفي التواضع إنصاف للنفس من بطشها، وهروب من الهوى إلى الهوية، واعتلاء منبر الألفة والتصالح مع الحياة. وفي التواضع يقظة للأحاسيس النائمة على هامش الروح، وانتصار على جوارح الجسد التي لا يلجمها إلا هذا الخلق الرفيع.

بقلم : الدكتور خالد اندريا عيسى

عن د خالد عيسى

شاهد أيضاً

قراءات الجمعة الثانية بعد الميلاد

خروج 15 : 11 – 21 ، ارميا 31 : 13 – 17 من مثلك …