عيد الصليب المقدس حكمة اللّـه وقدرتهُ

إِنَّ كَلِمَةَ الصَّلِيبِ عِنْدَ الـهَالِكِينَ حَمَاقَة، أَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ الـمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ الله.

1 كورنثوس1: 18.

 

الصليب:

الصليب منذ أقدم العصور أستخدمهُ الرومان واليونانيين والفرس في إعدام المجرمين. وكانت عقوبة الصليب هي أشد أداة إعدام بشعة لتعذيب، لأن المصلوب كان يتم تعليقهُ وصلبهُ إما بالتقييد بحبال أو التثبيت بمسامير على صليب خشبي ليموت موتاً بطيئا، كما أنه يكون المعلق معرض للأشعة الشمس طول النهار المحرقة وبرودة الليل، كما أن أجساد المصلوبين تكون عرضة لطيور السماء الجارحة. لقد كان المصلوب يثبت على خشبه الصليب وهو شبه عارٍ لكي يكون محط سخرية وأستهزاء الناس. وكان الرومان يسوقون المجرمين لتنفيذ حكم الأعدام فيهم، وكان يجبرون المجرم على حمل الصليب الذي سيعلق عليه. وكان هذا يُظهر خضوعهُ الى لسلطة الأمبراطورية الرومانية ويخذل الأخرين حتى يخضعون هم أيضاً.

الصليب المجد:

أن معنى صليب المجد قد تغير وأصبح مختلف تماماً بسبب حمل الرب يسوع المسيح الصليب وموته عليه. وعندما جاء الرب يسوع المسيح إلى يوحنا المعمدان لكي يعمدهُ، فهو عرفهُ وقال: “هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ“. يوحنا 1: 29. وبهذا أعلن هويته وخطة اللـه وحكمته وقدرتهُ له أن يكون ذبيحة للخطية. لقد مات الرب يسوع المسيح مصلوباً، فأصبح الصليب، الذي كان أداة للفداء مع الألم، العذاب، الدم حتى الموت، أحد الأركان الأساسية المهمة السامية التي يساعدنا على تذكيرنا بخلاصنا. أنه لم يعد عاراً بل أصبح مطلباً، وعنوناً للمجد، للرب المسيح اولاً ثم للمسيحيين من بعده.

زيارة القديسة هيلانة الى أورشليم وبناء ثلاثة كنائس:

يعود أصل عيد الصليب الى مطلع القرن الرابع الميلادي بعدما أهتدت الأمبرطورة هيلانة والدة الأمبراطور قسطنطين الكبيرعاهل الأمبراطورية الرومانية عندما زارت أورشليم والأراضي المقدسة عام 326 وكانت ألامبراطورة أمرأة مؤمنة وتقية فاضلة تدفعها عبادتها الصادقة والنابعة من عمق أيمانها بالرب يسوع المسيح، فذهبت بعد عشرين عام من أعلان تنصيرها ومسيحيتها بحج الى أورشليم المدينة المقدسة لتبحث هناك عن الاماكن التي قدسها الرب يسوع المسيح أثناء حياته ورغبتها في الحصول على خشبة الصليب الحي وسائر الآلات التي أستخدمت في آلامه وتعذيبهُ. بحثت وفتشت في المكان الذي دفنها المسيحيون أثناء الأضطهادات، فوجدت ثلاثة صلبان والكتابة والمساميرعلى حدة، فأحتارت في أيهما يكون صليب الفداء، فجاءوا بالصلبان الثلاثة ووضعوا الواحد تلو الآخر على امرأة مريضة، فلما لمس صليب الفداء الحي جسم المريضة برئت في الحال من مرضها ونألت الشفاء وتأكد لهم أنة هذا الصليب الذي صلب عليه الفادي يسوع المسيح. وقد أرسلت القديسة هيلانة قسماً من الصليب والمسامير الى ألامبراطور وأبقت القسم الباقي في القدس حيث بنت كنيسة فخمة في مكان قبر المخلص المسيح في الجلجلثة حيث نصب صليب يسوع عليها يوم صلبه وسميت (بيت الشهداء) على نفقتها الخاصة وأرسلت القسم الثالث الى قداسة البابا في روما. حيث توجد كنيسة في روما يعود بناها الى عام 340 إسمها (بازيليكا الصليب المقدس) وفي داخل كابلا خاصة يوجد فيه ثلاث قطع من الصليب المقدس داخل خزانة زجاجية. ثم زارت قبرالسيد المسيح في مدينة بيت لحم وبنت هناك أيضاً كنيسة (القيامة) وتم أفتتاح الكنيستين يوم 13 أيلول 333، وفي يوم 14 تم السماح للشعب المؤمن بدخول الكنيستين ومشاهدة خشبة الصليب المقدس، ومازالت قائمة حتى الأن.

سرقة وعثور على الصليب المقدس:

في عام 614 أنقضت على كنائس أورشليم هجمة شرسه شديدة بقيادة الملك كسرى أحد ملوك الفرس، بغزو أورشليم ومدن أخرى، وأسر ونقل الوف المسيحيين وفي مقدمتهم البطريريك زكريا، ودمرا ونهبوا وغنموا الذخائر والغنائم بما فيها خشبة الصليب المقدس المعروضة في كنيسة القيامة التي أبقتها القديسة هيلانة الى بلاده. ولما أعتلى ملك قسطنطين الكبيرعاهل الأمبراطورية الرومانية الروم كرسي الأمبراطورية في القسطنطينية سعى الى الصلح مع الملك كسرى لكن الأخير لم يرضى أن يعقد صلحاً مع الأمبراطور مهما تساهل في الشروط معه وأظب الأمبراطورعلى الصلاة والصوم وأعتمد على عون اللّـه وجيش جيشاً كبيراً وهاجم جيوش الفرس الثلاثة وهزمها الواحد بعد الأخر وفر الملك كسرى طالباً النجاة فقتله أبنه شيروه وأسرع الأخير في مفاوضة الأمبراطور، وكان أول شرط في عقد الصلح أسترجاع خشبة الصليب المقدس التي كانت في حوزة الفرس لآكثر من أربعة عشر سنة، فتسلمها الأمبرطور خشب الصليب والذخائر الأخرى من جيش الفرس المهزوم وجاء بها الى القدس ليردها الى مكانها عام 628، فأتى بها الأمبراطور الى القسطنطينية التي خرج الناس بكل ما فيها لأستقباله وتراتيل النصر والأبتهاج. أما الأمبراطور فقد أصدر مرسوماً يحرم فيه أستعمال الصليب ألة للتعذيب أو تنفيذ حكم الموت عليه، فأضحى الصليب مكرماً ومقدساً وأصبح علامة ووسيلة الخلاص ورمزاً للمسيحيين.

أشعال النار هي رسالة الخبر المفرح:

عيد الصليب لهُ طقوس خاصة ومنها أشعال النار في الكنائس والأديرى وقمم الجبال والبيوت ورفع الصلبان على السطوح. قصة أشعال النار كما يسردها الكثيرين هي: أنه عند أكتشاف وعثروا على صليب المسيح المقدس الحي، ولما تأكدوا من أن أحد الصلبان هو للرب المسيح، صعدوا الى جبل الجلجلثة وجمعوا الحطب والأخشاب، فأشعلوا ناراً ضخمةً رآها كل سكان المدينة وكان ذلك اليوم هو الرابع عشر من أيلول. وأراد القيمون في أورشليم أيصال الخبر المفرح وأعلام الملكة هيلانة في القسطنطينية، بأنها وجدوا الصليب، وكان الأتفاق أن يوضع على رؤوس وقمم الجبال من أورشليم إلى روما اكوم من الحطب والخشب وعند العثور على الصليب يشعل الأشخاص أو الجنود اكوم الحطب في منطقة الصليب وعلى كل قمة جبل عندما يرى الشخص القابع النار قد أشتعلت يقوم بدوره بأشعال كومته وهكذا وصل الخبر إلى الأمبراطور فكانت أفضل وأسرع وسيلة في ذلك الوقت، هذا التقليد والطقس قائمة حتى يومنا هذا في العالم.

الأحتفال بعود خشب الصليب الى الجلجلثة:

وبعد مرور سنة جاء بها الأمبراطور قسطنطين الى أورشليم ليثبت بعود خشب الصليب في موضعه على جبل الجلجلثة. فقام لملاقاته الشعب وفي مقدمتهم البطريرك زكريا. فأستقبلوه بأبهى مظاهر الفرح والبهجة بالمشاعل والترانيم الكنسية، وساروا حتى طريق الجلجلثة. وهناك توقف الملك بغته بقوة خفية وما أمكنه أن يخطو خطوة واحدة. فتقدم البطريرك وقال للملك: “أن الرب يسوع المسيح مشى هذه الطريق حاملاً صليبهُ، مكللاً بالشوك، لأبساً ثوب السخرية والهوان، وأنتَ لابس أثوبك الأرجوانية وعلى رأسك التاج المرصع بالجواهر، فعليك أن تشابه المسيح بتواضعه وفقره“. فأصغى الملك إلى كلام البطريرك، وأرتدى ثوباً حقيراً ومشى مكشوف الرأس، حافي القدمين، فوصل إلى الجلجلثة، حيث ركز الصليب في الموضع الذي كان فيه سابقاً.

علامة الظفر بالنصر:

أقامة تذكار لظهور الصليب للملك قسطنطين الكبير في الحرب ضد عدوه مكسنسيوس. وذلك أنه لما قَرُبَ من رومة أستعان بالمسيحيين وأستغاث بالههم وربهم يسوع المسيح وإله والدته الملكة هيلانة لينصره على أعدائه. وبينما هو في المعركة ظهر لهُ الصليب في الجو الصافي، محاطاً بهذه الكلمات بأحرف بارزة من النور: “بهذه العلامة تظفرفأتكل على إله الصليب، فأنتصر على الملك مكسنسيوس، وآمن بالمسيح هو وجنوده. وجعل راية الصليب تخفق في راياته وبنوده. وبعث الكنيسة من ظلمة الدياميس، وأمر بهدم معابد الأصنام وشيد مكانها الكنائس، ومنذ ذلك الحين، أي منذ عام 330، عمّ الأحتفال بعيد الصليب في الشرق والغرب يوم الرابع عشر أيلول من كل عام. وقد أمتاز بهذا الأحتفال منذ ذلك الوقت، فانه، ليلة هذا العيد، يظهر شعلة من النيران. فالشكر للرب يسوع المسيح الذي قال: وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ. يوحنا12: 32.

الصليب هو أعتراف وأيمان بالثالوث الأقدس:

عندما نرشم علامة الصليب هو أعتراف بالثالوث الأقدس، بأسم الأب والأبن والروح القدس الأله الواحد. آمين. هو أعتراف بوحدانية اللّـه كاله واحد. هو أعتراف بتجسيد الأبن الكلمة وحلولهُ في أحشاء بطن العذراء مريم. وأنتخذت الكنيسة أن ترسمه على جدرانها وأعمدتها، وأونيها وكتبها وملابس الأساقفة والكهنة والشمامسة. فبرشم الصليب نأخذ نعمة القوة والبركة.

صليب المسيح أعلن محبة اللّـه للبشرية:

لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ. يوحنا3: 16. كان رمز للعار والسخرية تحول صليب المسيح إلى رمز الأفتخار والأعتزاز به وأصبح الصليب رمز سامي وشعار المسيحية المقدس في كل مكان وزمان، ويترفع الصليب عالياً فوق كل الكنائس والأديرى والمزارات الدينية ويعلق على جدران البيوت وعلى صدور الأساقفة الكهنة وعامة الناس.

رحلة الراهبة ايجبرتة:

قد ذكرت الراهبة الأفرنجية ايجيرية في أخبار رحلاتها الى أورشليم بأن تذكار أكتشاف الصليب المقدس، بأن الأحتفال بالعيد لمدة سبعة أيام يجري خلالها تقديم الصليب المقدس لتسجد الناس لهُ أكراماً وتشفعاً.

 

كلمات الهالكين الحماقة عن الصليب:

+ الصليب رمز للعذاب والالم: أليس هذا ما يُقال أمام المصائب أو الأمراض أو الضيقات؟
+ الصليب رمزٌ للقهر: فكلّما أشتدت المصاعب في حياتهم قالوا: هذا صليب؟
+ الصليب رمزٌ للموت: فهو بالنسبة إليهم عبءٌ وحملٌ ثقيل كالموت.

كلمات المخلصين عن الصليب:

+ الصليب رمز لقوة اللـه: لم ينتقم اللـه من الصالبين بل أظهر لهم أن قوة الغفران أعظم من كل قوة أخرى لأنها تجسد قوة المحبة التي تذهب حتى أقصى الحدود، أي الموت.
+ الصليب رمز للكرامة: لم يعد الصليب بعد الفداء علامةً للقهر بل علامة للأنتصار على الذّات أولاً وعلى كل ما يبعدنا عن اللـه ثانياً وعلى صعوبات الحياة ثالثاً.
+ الصليب رمز للحياة: كلّما نظر المسيحي أو غير المسيحي إلى الصليب عليه أن يتذكّر بأن هذا الصليب يختصر أهم مفهوم في أيماننا المسيحي وهو أن المسيح قام، حقًّا قام! آمين.

الختامة:

قال الرسول بولس: وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي، فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ.غلاطية6: 14. أن عيد الصليب هو دعوة إلى الرجاء وعلامة أنتصار وقوة خلاص وفداء لمن يحملون الصليب، وهو انعكاس لقوة اللـه الّتي فينا وهو أساس كرامتنا وجسر عبورنا إلى الحياة الأبدية. وهو إعلان حُب اللـه للعالم والخلاص بالمُخلص والفادي الرب يسوع المسيح وحدهُ لهُ كُل المجد والأكرام. آمين.

شامل يعقوب المختار

عن شامل يعقوب المختار

شاهد أيضاً

فَجَعَلُوا لَهُ ثَلاَثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ”(مت 26: 15): “وَقَالَ: مَاذَا تُرِيدُونَ أَنْ تُعْطُوني وَأَنَا أُسَلِّمُهُ إِلَيْكُمْ؟ …. الثلاثين من الفضة التي سلم بها يهوذا يسوع وندم بعد ذلك…. لماذا وكيف ذكرت في الكتاب المقدس:

المقدمة والتمهيد:  القراء الكرام هل كانت الفضة هي الحل أقول: لم تكن الفضة قادرة على …