مَعموديَّة يوحنا في نهر الأُردن هيّ جزء مِنْ سلسلة تَجلّيات (أو “ظهورات”) للكلمة المُتَجسِّدة. حيثُ كان الظهور الأوّل لفقراء إسرائيل (الرعاة)، ثم الثاني للشعوب الوثنيَّة (المجوس)؛ ثم هذا الأخير ظهر للشعب كلّه.
في نهر الأردن، ظهَرَ يسوع في الكون. العلامات الّتي تَعقُب غَمرَهُ في الماء لها طابع كوني. السَّماء المغلقة هيّ رَمز للحاجز الّذي يفصل بين الله والبشر، مثل سيف الكروبيم المشتعل الّذي يمنع الإنسان مِنَ الوصول إلى شجرة الحياة في جنَّة عدن؛ اليوم في عماذ الرّب، سمعنا الإنجيلي يقول: “فانفَتَحت السَّماوات” وهذا يعني استُعيدت الشركة بين الإنسان والله. ثم ينزل الروح الخالق “مثل حمامة” رَمز السلام مثل الّتي نزلت على فُلكِ نوح بعد أنْ غَمرت مياه الطوفان الأرض. الصوت السماوي يملأ الجَّو بإعلان هام أنَّ الله مَسرور بخلقِهِ وأنَّه في الابن يُجدِّد عهده مع الإنسان: “هذا هوَ ابني الحبيب الّذي بهِ رَضيتُ”.
نحتاج حقًا إلى فتح السَّماوات. اليوم، يبدو أنَّ سماء الإنسان لها لون رمادي: يبدو الكون وكأنَّه آلة كبيرة، حيث يخضع الإنسان في كُلِّ شيء لقوانين ثابتة ربما هي مُعاديَّة للبشريَّة، حيث يَسود ويَتَحكَّم فقط العنف أو المال. لكن في بعض الأحيان يُظهِر الله نفسَهَ على أنَّه عدو. فهناك مَن يدَّعي بالعدل والنظام والمُساواة وهو لا يتَردَّد في القتل بِحجةِ الرضا الإلهي، أي أنَّه يفعل هذا لإرضاء الله.
اليوم يُحدِّثُنا الرَّب يسوع عن “العدل”: مَعموديَّته ضروريَّة “لتَحقيق كُل العَدل”. لكن المعموديَّة هيَّ رَمز للموت، والغطس في الماء يعني أنَّ الخاطئ الّذي يتَحمَّل مسؤوليَّة خطيئتِنا على عاتقِهِ هكذا يقول القدّيس بولس في رسالتِهِ الثانية إلى أهل كورنثوس: “أي إنَّ الله صالحَ العالَم مع نفسِهِ في المسيح وما حاسبَهُم على زلّاتِهِم، وعهِد إلينا أنْ نُعلِنَ هذِهِ المصالحة … لأنَّ الّذي ما عرَف الخَطيئَةَ جعَلَهُ الله خَطيئَةً مِنْ أجلِنا لِنَصيرَ بِه أبرارًا عِندَ الله” (2 كورنثوس 5: 19، 21)..
لهذا يُعارض يوحنا: الشخص الّذي أرسلَهُ الله، البريء، والّذي يطلب مِنْه المعموديَّة، لأنَّه هو الوحيد الّذي يجب أنْ لا يخضع للموت. بدلاً من ذلك، أعلن يسوع أنَّه لهذا السبب بالذات، جاء ليُظهِر للعالم أنَّ توقعاتَهُم ليست صحيحة، هذا الرمز سيحدث على الصليب الّذي أُقيم خارج أبواب أورشليم.
لا يستَجيب الله لمن يريد أنْ ينظم العالم حسب أفكاره؛ إنَّه لا يعطي حتّى لمُمثّلين يدّعون بأنّهم يعرفون كُل شيء ويُروِّجون لِقضيَّتِهم بِكُلِّ الوسائل، يروّجون بأنَّ الله وعدهم… إنَّه (الله) يقدِّم بِبَساطة “ابنه الحبيب” للعالم، في البداية طفلاً ضعيفاً في المذود، وأكثر مِنْ ذلك في النهايّة مُعلَّقاً على الصليب.
بهذا الشكل يمتَص الابن كُل شَر، وكراهيَّة، وعُنف، بما في ذلك العُنف الديني، الّذي يَظهَر بعدَ ذلك على أنَّه أعظم تجديف بالنسبة لهُم، حين سيُعلن الرَّب أنَّه ابن الإنسان الّذي سيَجلس عن يمين الله.
نعم هذا صحيح: إنَّه لا يُجيب على أسئلة الإنسان، ولا سيما الأكثر فظاعة، والّتي تتَعلَّق بألم البريء. يجب أنْ نَجد الإجابة مِنْ جانبِنا، كُلٌّ مِنّا في نفسِهِ، ويجب أنْ لا تكون إجابة أيديولوجيَّة، يَتم نطقها كما في مؤتمر فلسفي أو في غُرف خاصَّة في الظلمة؛ الإجابة الّتي يجب أنْ نجدها تلزم حياتنا، وتتَطلب حياتنا كلها، وتتَطلب مِنّا توجيهها نحو اهتداء جذري في تقديم الذات لله. هذا هو “العدل”: ليس مثل الحاجز الّذي يفصل الإنسان عن الإله الحقيقي، عن إله يتَحاور لا إله حجر. العدل ليس الامتِثال للقوانين، ولكن في المواجهة المستمرَّة مع ذلك الّذي لا يعتبر الحياة هِبة الله للإنسان، مواجهة مع كُل ما يريد قتلنا. العدل هوَ ما يُعلنه يوحنا المعمدان في بشارته: “أثمروا ثمراً يُبرهنُ على توبتِكم … ها هي الفأسُ على أصول الشجر، فكلُّ شجرةٍ لا تُعطي ثمراً جيّداً تُقطع وتُرمى في النَّار” (متى 3: 8 و 10). العدل هو التضامن مع ألم ابن الله، فالقدّيس بولس يعلن معنى معموديَّتنا الّتي هيَّ مثل معموديَّة الرَّب فيقول: ” ألا تعلمون أنَّنا حين تعمَّدنا لنتّحد بالمسيح يسوع تعمَّدنا لنموت معه، فدفنا معه بالمعمودية وشاركناهُ في موتِهِ، حتّى كما أقامه الآب بقدرته المجيدة مِنْ بين الأموات، نسلُكُ نحن أيضاً في حياةٍ جديدة” (رومة 6: 3-4).
لهذا السبب، فإنَّ عيد الدنح، عماذ الرَّب، يعلن لنا الحرّيَّة الجديدة. الروح هوَ مَبدأه: الغُفران لا يُزيل المسؤوليَّة عن الشَّر المرتَكَب، ويجعله أكثر صرامة، لكِنَّه يحوله إلى قوّة إيجابيَّة. مِنْ هنا يدعونا القدّيس بولس لنَفهم أهميّة المعموديَّة: “فمَنْ هوَ الّذي يَعرِفُ ما في الإنسان غيرُ الرُّوحِ الّتي في الإنسان؟ وكذلك ما مِنْ أحدٍ يَعرفُ ما في الله غيرُ روحُ الله. وما نِلنا نَحنُ رُوح هذا العالم، بَلْ نِلنا الرُّوحَ الّذي أرسَلَهُ الله لنَعرفَ ما وَهبَهُ الله لنا” (1 كورنثوس 2: 11-12).
دعوة لنا أنْ نُدرك أهميَّة مَعموديَّتنا ونعيش كل يوم في نعمةِ الرَّب، حتّى وإنْ سقطنا سبعين مرَّة في اليوم. فالله يريد أنْ يُساعدنا في تَحمّل أعباء هذه الحياة، وأنْ نحيا مِنْ أجل المسيح كما قال القدّيس بولس: “فما مِنْ أحدٍ مِنَّا يَحيا لِنَفسِهِ، وما مِنْ أحدٍ يموتُ لِنَفسِهِ. فإذا حَيينا فللرَبِّ نحيا، وإذا مُتنا فللرَبِّ نموتُ. وسَواء حَيينا أمْ مُتنا، فللرَبِّ نَحنُ” (رومة 14: 7-8). مِنْ هنا نقول أنَّه لا شيء يفلت حقًا مِنْ الأيدي المثقوبة لمن نزل إلى نهر الأُردن، ووحَّد معه كل إنسان آمنَ به.
بقلم: الاب الدكتور سامي الريس