لطالما تَخَيَّلتُ حياتنا كَبَحثٍ مُستَمر. نحن مثل الأطفال الّذين في شوارع أورشليم ننتَظر ونَختَبر في نفسِ الوقت دهشة دخول المسيح إلى أورشليم، وهوَ دخول إلى الحياة يُزعج حياتِهم اليوميَّة الروتينيّة، وحَيَويَّتِهِم وشكليَّة فعلِهِم. مثلما ربّما يكسر حياتنا الروتينية اليوم.
كان هناك هدوء في الإيمان، مثل إيماننا حتّى آذار (مارس) مِنْ عام 2020. كما قال البابا فرانسيس: “عِشنا بِصحّةٍ جيّدة في عالمٍ مريض”. حيث وصلنا عند نقطة مُعينة، يُمكِنُنا القول: وكأنَّه حدثت مواجَهة وانفِصال عن الماضي. فمثل اليوم عاش شعب إسرائيل في تلك الأيام نوع مِنَ التَحوّل مِنَ الثورة وذلك في إعلان “تَبارَكَ الآتي بِاسمِ الرَبِّ” وبعدَ أيّام قليلة سيَعيش نَفس الشعب التراجع عن هذا الإعلان، وكأنّهم يَعيشون في مَمر يَسير بِهِم مِنْ غرفة مَليئة بالنور إلى غرفة مُظلِمة.
في زمن كورونا حاولنا نحن أيضاً التّقرب من الله أكثر فلهذا زادت الصلوات والتضرعات كي يُنقذُنا من هذا الوباء القاتل، واليوم يُقال بأنَّنا على وشك الإنتهاء منه، فهل سنعود مرة أخرى إلى “عيش حياتنا بصحة في عالمنا المريض” مرة أخرى؟ أم سنستمر في تعزيز إيماننا، ونقول: “أوشعنا في الأعالي”؟
هنا نبدأ في فهمِ الهِبة والتَعرُّف عليها، ونُعلن قيمة المغفِرة أو نَرفض المسيح. التَحَوّل هوَ هذهِ الخُطوة. هل نعترف بيسوع على أنَّه المسيح المخلّص أم نبقى مع يسوع التاريخي وحده؟
إذا بقينا مع يسوع التاريخي، فَسنَستَمر في عيشِ ما يحدث: كنائس فارغة بِشكلٍ مُتزايد، إلّا في المناسبات الّتي يكون الحضور فيها شَكلي أكثر وليس شَكلي يوميَّاً، كما ينبغي. يجب أنْ يكون العمل كاملاً لأنَّ المسيح مُنخَرط في كُلِّ الحياة وبِكُلِّ آثارها.
يجب أنْ لا نترك المسيح في زاوية مِنَ القلب، وكأنَّه ذكرى، ونُبقي التركيز على مبادَرَتِنا. كتبَ تولستوي: «كان يَعتَقد … أنَّه يؤمن: ولكن في هذهِ الأثناء، وبِكُلِّ كيانِهِ … كان يُدرك أنَّ هذا الإيمان كان شيئًا “غير مُلائم على الإطلاق”. وهذا ما جعل عينيه حزينة دائمًا».
يريد يسوع اليوم أن يأخُذنا معه ويرغب في أن نُعطي أنفسنا له ونرى الحقيقة بِعَيوننا. أي أن لا تقتَصر نظرتنا على اتِّباعِهِ كشيء إعتيادي بل أن يكون لنا إجابَتنا “الخاصَّة بِكل واحدٍ منَّا”، ولكن هناك سؤال يَستَفزُّنا دائماً وهوَ الّذي يَجعلَنا نبدأ الرحلة مع يسوع. لقد كرّرتُ كثيرًا في السنوات الأخيرة هذه الفكرة: “مِنْ أجلِ أنْ نُدرِك رسالة المسيح علينا الوثوق بيسوع كَمُخلّص. فالأشخاص الّذين تَبعوه والّذين كانوا معه حقيقة في هذهِ الأيّام (أيّام الفصح)، ليسوا مِنَ الحَشد الّذي ذَهَب طالباً للشفاء أو لإعلان ملوكيَّة يسوع، بل الّذين إنْخَرطوا في مُشاركة حيويَّة في آلامِهِ وموتِهِ وقيامتِهِ. (مِنْ ضمن هؤلاء يُمكِنُنا أنْ نُشير إلى قائد المئة، لص اليمين …”.
اليوم هو أحد السعانين، يوجد حضور أكبر للمؤمنين في جميع الكنائس، مُقارنة بالسنة بأكمَلِها. هذا التَعبير، بِمُجرّد قراءتِهِ، يصبح مناسبًا. نَحتاج إلى اهتداء لاستعادة العلاقة: هذهِ هيَ نعمة المصالحة مع الله. أستَرد الإيمان لأنَّه لا يضيع شيء مع الله! كأبناء ضالين، دعونا نستَعيد الحاجة إلى الآب! فالإهتداء هوَ معرفة جديدة لهويّة إيمانِنا، ونظرة حقيقيَّة لواقعِنا الحالي.
نظرة حقيقيَّة، غير مُتشائِمة أو مُرتَبطة بأفكارنا المُسبَقة في تَقييم الواقع، في اختيار ما هو حقّاُ يستَحق. نحن بحاجة إلى نظرة مَفتوحة على نعمةِ المسيح. المسيح ليس مرآة تعكس ذواتنا، لكِنَّه نقطة استفزاز، إنَّه نافذة على العالم وإنفتاحٌ على الجديد. هذهِ المخاطرة، تؤسِّس العلاقة الحقيقيَّة مع الله والناس.
قال الأب الفرنسي (رينيه فويوم) “لا يكفي تَغذيّة إيمان المرء، بَل مِنَ الضروري تحويله إلى أعمال”. نحن مَدعوون، مثل رُسُل يسوع وتلاميذه، للانخراط في هذهِ الرسالة الرسوليَّة.
قلب المسيحي لا يَخصَّه فقط: إنَّه يُقدّمُ ذاتِهِ للآخرين. هكذا هيَ ذبيحة المسيح على الصليب: إنَّهُ يُقدِّمُ نفسِهِ للبشريَّة. تَضحيَّة تتَجدَّد. تَضحيَّة وهب النعمة في حياة البَشر. لذلكَ، الاحتفال الافخارستي هوَ مُهم جدّاً في حياة المؤمن قال البابا (بنديكتوس السادس عشر): “لإعطاء المحبَّة للإخوة، مِنَ الضروري سحبها مِنْ أُتُون نار المحبَّة الإلهيَّة، مِنْ خلالِ الصلاة، والاستماع المُستَمر لِكلِمَة الله والحُضور الّذي يتَمَحوَر حول الإفخارستيا”.
عيد السعانين، عيد الترحيب بالمسيح في حياتِنا، هوَ عيد فرح، حداثة تُزعِجُنا، حدَث فريد. دعونا نُصلّي سويَّةً كي تكون مُشاركتنا في السعانين، مع كُلِّ الّذين يحتفلون اليوم، شِركة بناء جماعة مَسيحيَّة حقَّة لا تتَخلّى عن المسيح الّذي يدخل حياتنا حتّى وإنْ إنتهى به الأمر إلى الموت على الصليب!
مثل سيّدتِنا مريم والمريميات الأُخريات، ومثل التلميذ الحبيب، قائد المئة واللص الصالح الّذي يتَعرَّف في تلك اللحظة على المسيح الفادي الّذي يُقدِّم ذاتِهِ لأجلِنا بدافع المحبَّة، دعونا نقبل كلماتِهِ ونَفهم ما سيقوله على الصليب: “أنا عطشان”: المسيح عطش إلى مَحبَّتِنا.
كان القديس غريغوريوس النزيانزي يُعلّم ويقول: “حسنًا، مُقابل كُل هذا، مُقابل كُل الخيرات الّتي أعطاك إيَّاها، ماذا يطلبُ مِنكَ؟ يطلب فقط الحُب. إنَّه يطلبُ مِنكَ دائمًا، أولاً وقبل كُل شيء، الحُب له وللقريب”. آمين
بقلم: الاب الدكتور سامي الريس