بينما (1) كانت مدينة الرها تواصل مسيرتها بعد أن أسسها القديس افرام الملفان سنة 363، كانت تيارات فكرية قوية تعصف في المدارس الكبرى الأخرى، لاسيما في مدرستي أنطاكية والاسكندرية. وسرعان ما ظهرت بينهما خلافات كانت في جوهرها فكرية – فلسفية. فكل من هاتين المدرستين تبنت طريقة خاصة في تفسير الكتاب المقدس، مما أدى الى سوء التفاهم بينهما. ففي انطاكيا كان اللاهوتيون والمفسرون أكثر ميلاً الى النظرة الارسطورطالية وأكثر أهتماماً بالحقائق اللملوسة المرئية. فمع أقرارهم بالوهية المسيح، كانوا ينظرون أكثر الى حياته الأنسانية الارضية. وكان رواد هذه المدرسة ديودورس وتيودورس المصيصي ونسطوريوس وأتباعه. أما مدرسة الاسكندرية، فكانت أكثر ميلاً الى الافلاطونية والى تفسير التأويلي الرمزي للكتاب المقدس، وكان مفسروها اكثر أهتماماً بلاهوت المسيح منهم بناسوته. وكان قورلس أكبر ممثل لهذه المدرسة. الا أن الأختلاف في الأسلوب المدرسي أخذ يزداد حدة بسبب النعرة العنصرية والتنافس على الكراسي الأسقفية الكبيرة. وقد زاد تدخل القسطنطينية الأمور تعقيداً، اذ اتخذت وجهاً سياسياً بأعتبارها عاصمة الامبراطورية البيزنطية، ودارات نقاشات حادة بين الفريقين لن تتسم بالمحبة المسيحية، وكان مردها أختلاف في معاني الالفاظ ذاتها، وادى الأمر الى التباعد ثم الى الأنقسام المؤسف.
مجمع أفسس 431 م (2)
كان الامبراطور تاودوسيوس الثاني يراقب عن كثب تلك الجدالات المؤسفة واراد أن يجمع شمل المؤمنين فدعا الى عقد مجمع في مدينة أفسس سنة 431، فأجتمع في أفسس نحو (160) أسقفاً كما حضره قورلس بطريرك الاسكندرية الذي كان خصماً عنيداً لاراء (نسطوريوس) وعقد المجمع أول جلساته في 22 حزيران سنة 431 قبل حضور بقية الوفود وبغياب نسطوريوس وقرر المجتمعون تحريم نسطوريوس وأسقاطه من الدرجة الأسقفة. ولكن (يوحنا) بطريرك انطاكيا صديق (نسطوريوس) عندما وصل مدينة أفسس وعلم ما حدث بالمجمع حول تحريم نسطوريوس غضب جداً، وعقد هو الأخر مجمعاً في مدينة أفسس في 24 حزيران 431م حضره زهاء أربعين أسقفاً، قرروا فيه عزل (قورلس) بطريرك الاسكندرية ومؤيديه. وقدم كل فريق تقريره الى الامبراطور البيزنطي، واذا بالامبراطور يصدر قراراً في 29 حزيران من السنة ذاتها، بالغاء كل ما جرى في 22 حزيران أي الغاء مقررات المجمع الذي ترأسه (مار قورلس).
وفي 10 تموز عقد المجمع ثانية بحضور وفد من البابا سلستينس الأول قادماً من روما، وتليت في المجمع رسالة البابا التي جاءت مطابقة لمعتقد (قورلس) بطريرك الاسكندرية وزملائه وأيدوا في المجمع قرار تحريم (نسطوريوس) كما حرموا أيضاً (يوحنا) بطريرك أنطاكيا مع 34 أسقفاً من الموالين له. وبينما كان المجمع منعقداً أصدر الامبراطور قراراً عزل فيه (نسطوريوس) و (قورلس) من مناصبهما البطركية. نفي على أثرها (نسطوريوس) الى صحراء الليبية حيث وافته المنية قبيل عام 451م وظلت هاتان البطريركيتان (الاسكندرية والانطاكية) متباعدتين متنافرتين في أرائهما حتى 433م اذ تم الأتفاق بينهما، حيث أقر الشرقيون أيضاً بأن مريم هي أم اللـه، وحرموا (نسطوريوس) ووافقوا على عزله، ولقد تبودلت الرسائل في نيسان 433م بين (يوحنا) الانطاكي و (قورلس) الاسكندري وأتفقا على التعابير الخاصة بالتجسد، فأكدا على الوحدة في المسيح ضد نسطوريوس وعلى حقيقة ( الطبيعتين) فيه. ورغم هذا الأتفاق فقد كان الشرقيون يعارضون بعض التعابير وأختلفوا فيما بينهم فدعا الامبراطور الى عقد مجمع مسكوني أخر في أفسس، فعقد المجمع في 8 آب سنة 449. وترأس المجمع (3) (ديوسقوروس) بطريرك الاسكندرية. وضم هذا المجمع نحو 130 أسقفاً معظمهم من مؤيدي الامبراطور بالاضافة الى ( فلابيانوس) بطريرك القسطنطنية وأساقفته 43 الذين أرغموا على السكوت في هذا المجمع. وفي ختام المجمع قرر المجتمعون رفع الشجب عن (اوطيخا) والغاء التحريم عنه. والجدير بالذكر أن وفداً يمثل البابا الروماني برئاسة الأسقف (هيلاريوس) كان حاضراً جلسات هذا المجمع الا أنهم منعوا عن التعبير عن رأيهم.
مجمع خلقيدونية (4)
عندما تولى الامبراطور (مرقيان) عرش الدول البيزنطية قرر أن يعقد مجمعاً يؤيده البابا الروماني لاون ويرأسه فدعا الى عقد مجمع فحضر 630 أسقفاً في مدينة خلقيدونية الواقعة على شاطى البوسفور بالقرب من العاصمة البيزنطية ليتمكن من متابعة سير المجمع وأدارة شؤون الدولة. فأفتتح المجمع أولى جلساته في 8 تشرين الأول سنة 451م، وقد حضر هذا المجمع جميع الفئات المتخاصمة، أساقفة روما والقسطنطينة من جهة، وأنصار (ديوسقوريوس) – بطريرك الاسكندرية – و (اوطيخا) من جهة أخرى. وقد أقرت في الجلسة الأولى قرارات منها أعادة الأعتبار الى (فلابيانوس) بطريرك القسطنطينية – الذي توفى قبل أنعقاد المجمع – وفي الجلسة الثانية التي عقدت في 19 تشرين الآول أقر المجمع تعاليم (قورلس) بطريرك الاسكندرية – المتوفي عام 444م – كما أقروا أن بطرس يتكلم بواسطة لاون أي (بابا روما هو خليفة القديس بطرس)، أما الجلسة الثالثة فقد قرر فيها المجمع عزل (ديوسقوردس) بطريرك الاسكندرية من منصبه، وفي الجلسة الرابعة نوقشت أمور جوهرية حول المعتقد، وفي الجلسة الخامسة قرر المجتمعون (أن المسيح طبيعتين متحدتين بدون تغير ولا أنفصال ولا أمتزاج) وعقدت الجلسة السادسة في 25 تشرين الأول سنة 451م بحضور الامبراطور والامبراطورة. وفيها أيد الامبراطور كافة مقررات المجمع الخلقدوني. نستدل مما سبق أن القرن الخامس الميلادي كان فترة حرجة وحاسمة في مسيرة الكنيسة، اذ أفرزت تيارات وأجتهادات لاهوتية ضمن العقيدة المسيحية. ومن المؤسف (5) أن نذكر الاعلام الذين كانوا وراء هذه المذاهب والاجتهادات الدينية أو عملوا على ترسيخها وأنتشارها كانوا رؤوساء رجال الدين في الكنائس المسيحية:
1 – تيودوروس المصيصي (المتوفي سنة 429م): أستاذ في المدرسة الانطاكية، وصاحب تأليف لاهوتية وتفسيرية مهمة. كانت أساسا لتعاليم نسطوريوس.
2 – نسطوريوس: ولد عام (381م) في جرمانيقي السورية. درس في مدينة انطاكيا حيث تعلم وترهب ورسم كاهنا فيها. كان على درجة كبيرة من الذكاء والبلاغة والفصاحة وكان متميزاً بين أقرانه، فأنتخب بطريركا على العاصمة البيزنطية قسطنطينية ورسم في 10 نيسان 428م. تأثر بأفكار تيودوروس المصيصي وتبناها وجاهد من أجلها. حرمه مجمع أفسس الأول ونفي الى الصحراء الليبيبة حيث توفى هناك.
3 – يوحنا الانطاكي: بطريرك انطاكيا وصديق نسطوريوس. ترأس مجمعاً صغيراً ضم 43 أسقفاً في 24 حزيران سنة 431م أيدوا فيه (نسطوريوس) وشجبوا (قورلس) بطريرك الاسكندرية.
4 – قورلس: رسم بطريركاً على الاسكندرية سنة 412م أعترض اراء نسطوريوس في رسالة كتبها له سنة 430م. عقد مجمعاً خاصاً في الاسكندرية عارض فيه أراء (نسطوريوس) توفى سنة 444م.
5 – ديوسقوروس: بطريرك الاسكندرية خلفاً لقورلس سنة 444م ترأس مجمع أفسس الثاني 8 آب سنة 449م، برعاية الامبراطور البيزنطي (تاودوسيوس) كان مؤيداً ومشجعاً (اوطيخا).
6 – أوطيخا: كان رئيساً لدير كبير قرب القسطنطينية عام 449م. تمسك بتعاليم (قورلس) بطريرك الاسكندرية. ونادى بمبدأ “طبيعة واحدة بعد التجسد” أيده ذلك (ديوسقوروس) بطريرك الاسكندرية. والامبراطور الروماني (تاودوسيوس).
7 – سمعان الارشمي: ولد في بيت أرشم القريبة من المدائن. رسم مطراناً نحو سنة 510م كان من أكبر الداعين للمذهب الموفيزي. أتخذ من الحيرة مركزاً لنشاطه بالرغم من وجود مركز أسقف نسطوري فيها. أشتهر بجدالاته مع النساطرة وأمتد نشاطه حتى البلاد الارمنية والعاصمة البيزنطية حيث أقام فيها سبع سنين( 524 – 531م) وتوفى فيها قبل عام 540م. مهد بعمله الطريق ليعقوب البرادعي وأحودامه وغيرهما من الذين نشروا المذهب المنفيزي.
8 – برصوما: أسقف نصيبين. عقد مجمعاً في بيت لافاط في نيسان سنة 484م أقر فيه تعاليم تيودوروس المصيصي ونسطوريوس، وقد كان هذا المجمع أيذاناً بتبني كنيسة المشرق المذهب النسطوري، رغم أن هذا المجمع كان مجمعاً مصغراَ وغير شمولي أذ ضم رؤوساء سبعة أبرشيات فقط.
9 – يعقوب البرادعي (المتوفي عام 578م). هو مطران الرها. جاء الى القسطنطينية عام 528 مع مجموعة من الرهبان ليحتمي بالامبراطورة (تيودورة) التي كانت مؤيدة لتعاليم (اوطيخا) المونوفيزي. وأخذ يطوف في المناطق الشرقية ويرسم أساقفة وشمامسة عديدين، وبفضله أستطاعت الكنيسة المونوفيزية أن تنظم شؤونها وتستعد نشاطها وتستمر في الحياة. وأستحق أن يحتل مركز الصدارة بين الذين عملوا في نشر المنوفزية في الشرق. حتى أنتسب أبناء هذا المذهب اليه عهداً طويلاً فعرفوا باليعاقبة.
أن المجمع (6) التي حدثت في تاريخ الكنيسة لأجل التفاهم والأتحاد دارت فيها نقاشات حادة بين الفرقاء لم تتسم بالمحبة المسيحية وأفرزت تيارات وأجتهادات فكرية فلسفية وتفسيرات لاهوتية حول العقيدية المسيحية الواحدة. وتدخلت فيها أهداف دنيوية وسلطوية وعنصرية وسياسية والتنافس على الكراسي الأسقفة والزعامات ومن المحزن والمؤسف جداً أن تتحول المحبة والتواضع والتضحية المسيحية المثالية الى هذه الأهداف المدمرة التي دفع ثمنها المسيحيون في كافة أنحاء العالم من أنقسام وتباعد وقتل وتشريد وضياع وحروب ومأسي لا توصف خلال القرون الاحقة.
أنقسم المسيحيون الى ثلاث فئات:
1 – فئة أتخذت من مجمع خلقيدونية منهجاً عاماً في الأيمان وهم أتباع البابا الكاثوليك الذين يؤمنون بأن بابا روما هو خليفة القديس بطرس وأن في المسيح طبيعتان متحدتان بدون تغير ولا أنفصال ولا أمتزاج.
2 – كنيسة المشرق كرسي ساليق تبنت تعاليم نسطوريوس بطريرك القسطنطينية منهجاً لللأيمان، والمسيح طبيعتان منفصلتان وفي مجمع الجاثليق باباي سنة 497م أجتمع الأساقفة في ساليق وقرروا مصير كنيسة المشرق وأعطى لها الطابع النهائي لأنفصالها الأداري عن الغرب وتبنتها المذهب الشرقي النسطوري، وبعدها أعتنق قسم من شعبها المذهب الكاثوليكي، وسميت كنيستهم الكنيسة الكلدانية، وأطلق على البطريرك بطريرك بابل على الكلدان وكان ذلك في سنة 1553.
3 – كنيسة انطاكيا تبنت تعاليم المذهب المنوفيزي أي أن في المسيح طبيعة واحدة وسموا السريان الارثذوركس وفي القرن السابع عشر أعنتق قسم منهم المذهب الكاثوليكي وسموا بالسريان الكاثوليك.
المصادر: (1) التقويم شهر حزيران 1990. (2) حبيب حنونا ص28. (3) نفس المصدر ص29. (4) نفس المصدر ص30. (5) نفس المصدر ص31. 06) التقويم حزيران 1990.
الموسوعة الكلدانية – كتاب تاريخ الكلدان صفحة 74 الى 79.
الناشر/ شامل يعقوب المختار