في عام 1258م أحتل هولاكو (1) مدينة بغداد واباد من سكانها خلقاً كبيراً، أما بالنسبة للمسيحيين القاطنين فيها الذين سلموا من المذابح، فقد أمر بأن يجمع كافة المسيحيين في منطقة واحدة، وأن لايمسوا بسوء، فحافظ على حياتهم. وسبب عطفه على المسيحيين في بغداد كان أكراماً لزوجته (دقوز خاتون) ووالدته (سركوتي باجي) اللتين كانتا تدينان بالمسيحية ولهذا تنعم المسيحيون بنوع من الأستقرار النسبي في عهد هولاكو. وقد أكرم هولاكو الجاثليق مكيخا (1257 – 1265م) بأن أهداه قصر الخليفة المستعصم (الدويدار) ليكون مقراً للجاثليقية في بغداد. وبنى البطريرك كنيسة بأسم البيعة الجديدة ودق الناقوس في أعلاه وفيها دفن بعد ذلك البطريرك.
دخل هولاكو بغداد ليشاهد بنفسه دار الخليفة (2) ثم أمر بأحضار الخليفة فأحضروه ومثل بين يديه وقدم جواهر نفيسة ولآلي ودُرراً معبأة في أطباق. ففرق هولاكو جميعها على الأمراء. وفي أول مرحلة قتل الخليفة المستعصم وأبنه الأوسط مع ستة نفر من الخصيان. ثم قتل أبنه الكبير ومعه من الخواص على باب كلواذى. ويموت الخليفة المستعصم وأولاده دالت دولة بني العباس وأنطوى بساط ملكهم من بغداد ومن كافة أنحاء الدولة العباسية بعد أن حكموا (524 هجرية) وقام منهم سبعة ثلاثون خليفة.
وبعد أن دام القتل والذبح سبعة أيام لم يبقى من أهل بغداد إلا القليل. قال المؤرخ الانكليزي (3) ستيفن لونكريك: عصفت في بغداد ريح الخراب فدهمها هولاكو حفيد جنكزخان فثل عرشها وأطفأ نار الخلافة فيها الى الأبد وأستباح غنائمها التي لا تحصى وكنوزها العظيمة وذبح شعراءها وتجارها. وفرق طلابها وعلماءها وفقهاءها وأتلف مكتباتها العظيمة ورمى الكتب في نهر دجلة فأستحألت في يوم واحد من مركز السلطة السلامية الذي لاند له الى مركز حقير من مراكز الامبراطورية الأيلخانية.
قال المؤرخ (4) غيبون: “وأخذت الدماء تنساب في شوراع المدينة ( بغداد) ثلاثة أيام حتى أصطبغ ماء دجلة عدة أميال وظلت ريح التخريب والذبح وأنتهاك الأنسانية تعصف بالمدينة ستة أسابيع كاملة. وألتهمت النيران نتائج قرائح العلماء والأدباء وألقيت الكتب لتلتهمها ألسن النار أو تبتلعها مياة دجلة. وهكذا فقدت البشرية كنوز خمسة قرون وفنيت زهرة الأمة فناء تاماً”.
قال أبن المفوطي البغدادي (5): “وضع هولاكو السيف في أهل بغداد مدة أربعين يوماً. فقتلوا الرجال والنساء والصبيان والأطفال، فلم يبقى من أهل البلد إلا القليل ما عدا المسيحيين فالتجا أليهم خلق كبير من المسلمين فسلموا عندهم. وكانت القتلى في الدروب والأسواق كالتلال”.
لقد أمر هولاكو أن تجمع رؤوس القتلى وتعبأ على شكل تل في ساحة الميدان الحالية في بغداد، وسميت هذه المنطقة كلاجية. كلا معناها رأس وجبة معناها محل أي محل تعئبة الرؤوس المقطوعة والناس يتناقلون هذا الأسم المشبوة لأنه محل المبغى العام الذي شُيد فيما بعد في نفس المكان.
كان معظم ملوك المغول (6) من المسيحيين أو المتعاطفين معهم ولكن أنقلاباً تراجيدياً حدث عندما تولى السلطان غازان المغولي (1295 – 1303م) الحكم في بغداد خيم على المسيحيين القاطنين فيها وماحولها كابوس لم يسبق له مثيل، فقد كان يحقد حقداً شديداً على الذمة قاطبة وصمم هذا الخان أن يقتلع جذور المسيحية في مملكته، فقد أصدر نوروز عامله أمراً يقضي: (بأن جميع الكنائس يجب أن تقتلع من جذورها، وأحتفالات الأفخارستيا (عيد الشكر) يجب أن تتوقف، يجب أن لا يكون قراءات في المزامير ولا صلوات، ولا أصوات النواقيس، رؤوساء المسييحن وكهنتهم وكافة عظمائهم يجب أن يقتلوا)، يقول الأب أنستاس ماري الكرملي في كتابه (الفوز بالمراد في تاريخ بغداد: (أن المحن التي عاناها المسيحيون في عهد هذا السلطان لايفي القلم بوصفها، فأن هذا السلطان منع الرجال المسيحيين من الظهور في الشوارع، وأستولى على دار البطريركية – الدويدار (7) – وأزيل ما بها من التماثيل والخطوط السريانية وأستعيد الرباط الذي بأتجاه هذه الدار المعروف بدار الفلك، وكان قد جعله المسيحيون مدفناً لأكابرهم فأزيلت القبور منه وصار محلاً للوعظ.
قال المؤرخ عمرو بن متى ما نصه: “ونقلوا (أي المسيحيون) أجساد الذين في البيعة المذكورة وهما مكيخا ودنحا واتوا بهما الى بيعة سوق الثلاثاء. وأغتم المؤمنون لذلك عظيماً وصلوا عليهما يوماً ووليلة ودفنوا مكخيا في الفنكي ودنحا في بيت العماد. ثم السلطان غازان القى القبض على (يهبالاها الجاثليق) عام 1295م ولم يخرج الا بعد أن دفع جزية باهظة (عشرون الف دينار) وأضطر الجاثليق أن ينقل كرسي الجثلقة الى مدينة (مراغا).
وقد حذا الخان المغولي خربيدة خان (8) حذو سلفه غازان خان أذ أصدر أمراً عاماً 1306م يقضي: (على كافة المسيحيين القاطنين في البلاد أما أن يعلنوا اسلامهم أو أن يدفعوا الخراج، ويطمغوا في وجوههم علامة مميزة، تقتلع لحاياهم. وأن توضع علامة سوداء على أكتافهم) أضافة الى القوانين والأوامر السابقة التي سنها سلفه. واستناداً الى مخطوط كتبه الراهب (يوحنا): (أن المسيحيين تحملوا هذه الأهانات ودفعوا الضرائب، وبقوا على دينهم. وعندما رأى خربندا أن هذا لم يجد نفعاً مع المسيحيين أصدر أمراً يقضي أن يخصى المسيحيون وأن تقلع أحدى عيونهم في حالة عدم قبولهم السلام) أن هذه الأوامر قد نفذت حرفياً في كثير من المناطق، ما عدا المناطق التي أستطاعت أن تفدي أبناءها لقاء دفع مبالغ طائلة، فأن أهالي أبرشية الموصل مثلاً دفعوا في عام 1296م خمسة عشر الف دينار ذهب ليبعدوا الشر عن كنائسهم وأبنائهم وهرب كبار القوم وتشتت غالبية الشعب المسيحي في قرى وجبال تركيا وايران وكادت بغداد والمدائن وكشكر ومدن أخرى في الجنوب تخلو من المسيحيين (وجلهم كلدان بحكم أنتمائهم القومي وموقعهم الجغرافي). كانت بلاد العراق في عهد الدولة المغولية تئن من رزايا الحروب فحلت الأضطرابات دون تقدم العلوم التي كانت في أيام الدولة العباسية.
أما كارثة الكوارث فكانت على يد تيمورلنك (9) “لنك تعني الأعرج” يوم أحتل بغداد المرة الأولى عام 1391م وعمل السيف في رقاب أهلها دون تميز، يقول رافائيل بابو اسحق في كتابه: “تاريخ نصارى العراق: ص 112-113 (أما المسيحيون فكانت حالتهم يرثى لها، فقد تبدد جميعم وهربوا لاجئين الى القرى والجبال النائية خوفاً من القتل والذبح. .)، ولما دخل تيمورلنك بغداد المرة الثانية سنة 1400م) أمر بذبح قاطنيها ذبحاً فخربت المساجد والجوامع وهدمت المدارس. قال صاحب كتاب عمدة البيان في تصاريف الزمان: أن تيمورلنك في بغداد قتل تسعين الف مسلم. وقال صاحب منتج المرتاد في تاريخ بغداد: ” سالت الدماء في شوارعها وأقاموا فيها هرماً عليه تسعون الف رأس من القتلى وأمر جميع من معه أن يأتي كل واحد منهم برأسين من رؤوس أهلها”.
وكانت نوائب مسيحي الموصل في تلك الغضون فادحة. فأمر علي باشا صاحب هذه المدينة بهدم كل الكنائس. وفي سنة (1372م) نهب الأشقياء دير الشيخ متي وفي عام (1375م) خربت بيعة أربيل الكبرى. ونحو سنة (1401م) توالت غارات المغول على أطراف الموصل فقضت على دير بيت عابي وعلى غيره من الأديار التي كانت زاهية بعلومها وأنظمتها ومكاتبها ورهبانها.
أما أوبري فاي فيقول: أن مقاطعة أو أبرشية نصيبين قد توسعت وأصبحت معقلاً من معاقل المسيحية بجانب أبرشيات الموصل والتي عاشت فيها الكنيسة الى الأن وذلك بسبب من تبقوا هناك من المهاجرين الذين هربوا من غزوات المغول وفي عهد تيمورلنك لأن تلك المنطقة كانت أبعد نسبياً عن المدن التي أستهدفها المغول. لأن الكثيرين من النساطرة اللاجئين قدموا الى جبال كردستان من مناطق أخرى من الجنوب والشرق لكي يكونوا بعيدين عن مراكز الزوبعة المغولية. وجاء في كتاب (نزهة المشتاق في تاريخ يهود العراق) ليوسف غنيمة ص 151 – 152: (هجرة النساطرة بغداد والبصرة وكل مدن العراق ما عدا الموصل وتوابعها، والتجأوا الى قمم كردستان وبلاد الفرس).
وجاء في كتاب (تقويم قديم للكنيسة الكلدانية النسطورية) نشره المطران بطرس عزيز عام 1917: قبل الهجرة الكبرى في القرن الخامس عشر، كان في بغداد وضواحيها ستة عشر الف بيت مسيحي، يدير شؤونها مطران بوليط واحد وسعبة أساقفة وخمسمائة كاهن، أما نهاية القرن السابع عشر خلت بغداد من المسيحيين الا من ندر قليل.) وهذا تأكيد أخر أن هجرة كبرى فعلاً قد حدثت في بغداد وضواحيها بعد مذابح تيمورلنك.
ثم أصبح العراق (10) جزءاً من دولة القره قوينلو (الخروف الأسود) سنة 1410 – 1467م والأق قوينلو (الخروف الأبيض) سنة 1467 – 1508، ثم دولة العثمانيين منذ 1534. فأحتل السلطان سليمان الأول القانوني بغداد، ومكث فيها أربعة أشهر، ثم أبقى الوالي بكر الصوباشي عام (1619م) فشق عصا الطاعة عن الحكومة وأستقل برأيه. ثم أستجار الصوباشي بالشاه عباس الأول فدخل المدينة وأصبحت تحت حماية الفرس، ثم جاء السلطان مراد (1637م) وحر بغداد من الفرس. فقد سببت سنوات الأحتلال الصفوي وحروب الأستراداد العثمانية الكثير من الدمار والخراب في البلاد، وتميزت هذه العهود بالأضطراب والفوضى. وكان مصير المسيحيين شأن مصير اخوانهم المسلمين، بل أسوأ بكثير، مهما حاولوا أن يظهروا الولاء والأخلاص والتعاون. فساءت أحوالهم وفرضت عليهم أجراءات تعسفية وتعرضوا لشتى المظالم والمحن. الا أن كنيسة المشرق واصلت مسيرتها واستمرت في عطائها وخدمتها. وفي غمرة شدتها وجهت أنظارها الى روما وأعادت معها وحدة الأيمان في منتصف القرن السادس عشر، وبرز فيها أدباء وشعراء منهم كيوركيس وردة وخاميس برقرداحي وعبد شيوع الصوباوي والبطريرك يوسف الثاني آل المعروف وغيرهم.
المصادر: (1)،(6)،(7)،(8)،(9) – لمحات من تاريخ كلدوا وأثور (حبيب حبونا) ص 30-31.
(2)،(3)،(4)،(5) – روفائيل بابو اسحق ص 106 – 107. (10) التقويم لشهر تشرين الثاني 1990.
الموسوعة الكلدانية – كتاب تاريخ الكلدان صفحة 107 – 111 وصفحة 112 خارطة.
الناشر/ شامل يعقوب المختار