كنيسة شمعون الصفا … الحلقة التاسعة والثلاثون

كنيسة شمعون الصفا (1)

تعتبر كنيسة شمعون الصفا من المواقع الأثرية الهامة التي تفتخر بها مدينة الموصل، ولا يتنازعها منازع من حيث أهميتها كاثر مسيحي، فهي أقدم كنيسة في الموصل لا تزال تحتفظ بما يدل على قدميتها.

لا غرو أن ثمة مواقع لكنائس أقدم منها الا أنها قد أندرست أو أجريت عليها تجديدات أودت بمعالمها الأثرية، أما كنيستنا فبالرغم من التشويه الذي طرأ عليها عبر العصور. لا يزال قاصدها يستمتع بالكثير من البقايا الأثرية والتحف النادرة. تقع كنيسة شمعون الصفا في محلة المياسة بالموصل وهي منخفضة عن مستوى الشارع الحالي بخمسة أمتار تقريباً.

تحمل الكنيسة أسم شمعون الصفا أو القديس بطرس رئيس رسل المسيح، ولبطرس أهمية كبرى في كنيسة المسيح وتاريخها، كما وله مكانه عظيمة في طقوس كنيسة المشرق (الكلدانية) وتاريخها. الا أن كنائس قليلة تحمل أسمه والكثير من الكتاب العرب يأتون على ذكر شمعون الصفا زعيم الحواريين. فقد كان مقامه مزاراً للمسيحيين والمسلمين على السواء كما ياتي في منهل الأولياء ومنية الأدباء وترجمة الأولياء وغيرها من الكتب. فخاطيء هو رأي المطران حنا أو البطريرك يوحنا هرمز القائل للرحالة ريج ابان زيارته للكنيسة في 4 شباط 1821 أن الشفيع هو شمعون بصباغي أو شمعون ساوا الشيخ. الا أن ثمة أحتمال نسب الكنيسة الى القديسين بطرس وبولس معاً لأن الصندوق الأثري الذي يحمل رفات “ذخائر مقدسة” السيدة مريم، ويرتقي الى عام 1301م يذكر أسم الرسولين بطرس وبولس كشفيعين للكنيسة وهو أقدم دليل يرد فيه أسم كنيستنا.

قدميتها التاريخية (2)

رجح المطران سليمان الصائغ في بادئ الأمر، أن كنيسة شمعون الصفا أقدم كنائس الموصل فارجعها الى عهد الجرامقة أو القرن الثالث الميلادي ثم عدل عن رأيه فأعتبر ما رجحه من البراهين الضغيفة وأخذ يتشبث لأثبات قدمية الكنيسة ليس بمرور القديس بطرس في الموصل كالسابق بل بأنخفاض الكنيسة وخلوها من النوافذ وطراز البنيان. ويتفق المؤرخون من مسلمين ومسيحيين وعرب وأجانب على أن كنيسة شمعون الصفا قديمة جداً ولا تزال فيها آثار ترجع الى الأجيال الغابرة لكنهم يختلفون في تحديد زمن قدميتها فيكتفي معظمهم بالقول أنها كنيسة قديمة جداً وذكرها هرتزفيلد على أنها كذلك أما لوك فيعتبر جرن العماد الذي فيها من أقدم الأثار المسيحية في الموصل بينما ترجع ليدي درور كنيستنا الى الى القرن الرابع عشر ويصرح فيلادر أنها أقدم كنيسة كلدانية في الموصل ويؤكد الأب فيي أنها تضم بقايا آثار قديمة جداً.

ذكرها في التاريخ

ليست كنيسة شمعون الصفا بأوفر حظاً من مثيلاتها في هذا الشأن فهي ليست ديراً اكتظ برهبان لهم مؤلفاتهم ولم تشتهر بمدرسة أو كاتب مرموق لذا فأن أقدم ذكر تاريخي لها يأتي عفوا عندما يسجل الخطاطون في ذيل كتاب طقسي ما أسم الكنيسة صاحبة الطقس وقد جمع الأب فيي أهم هذه المخطوطات التي أقدمها من الجيل السادس عشر ويضم مجاميع شتى كتبها القس دانيال بن عطا اللـه من قرية كرب اولما لاخته بتا، ثم اهدي الى كنيسة شمعون الصفا (هامة الرسل) ومخطوط أخر من سنة 1545 هو كتاب صلوات طقسية (كزا) كتبه القس عطية بن فرج في جزيرة أبن عمر ومخطوطات أخرى تلي هذا التاريخ. وأن كثيرين من الرحالة يأتون على ذكرها كما راينا آنفاً أمثال ريج، وطوك، وبكنغام، وهرتزفيلد، وليدي، وده فيلارد. أما للبطريرك يوحنان هرمز في الثلث الأول من القرن التاسع عشر ثم عندما نازعت كنيسة مسكنتة زعامتها أبان أنشقاق الكلدان الى حزبين في الثلث الأخير من القرن عينه. كما أن لتاسيس روضة ومدرسة فيها ثم تشيد المعهد الكهنوتي البطريركي بجوارها بهمة الشماس روفائيل المازجي في النشرة ذاتها زيادة في أهميتها.

واقدم ذكر تاريخي للكنيسة هو عندما عاد الوكيل البطريركي مار ايشوعياب والشماس كوركيس من بغداد الى الموصل بعد أن قدما في بغداد صورة أيمانه الى روما على يد المطران اللاتيني عمانوئيل كورنيليوس فدخل الجميع فرحين بأبهة وأحتفال الى كنيسة شمعون الصفا واشتركوا في القدسيات وكان ذلك في اواسط القرن الثامن.

موقعها وبنيانها (3)

أن أنحفاض الكنيسة الحالي هو 4,6م الا أن مستوها هذا ليس الأصلي لأننا قمنا مؤخراً بالكشف عن السطح والأسس الأصلية فوجدنا المستوى الأصلي على عمق 1,5م من الحالي مما يجعل أنحفاض الكنيسة6,1م وهذا مما يضطرنا على العودة بتأسيس الكنيسة الى عهد سحيق جداً الا أننا ننفي أن تكون الكنيسة من الجيل الثالث بل نرجح تأسيسها بعد الفتح الاسلامي بقيل فقد أكشفنا عدة قبور على عمق 3,1م من سطحها الحالي 1,6م من مستوها الأصلي، الأمر الذي يدل على أن الكنيسة بقيت فترة لا باس بها قيد الأستعمال قبل أن يرتفع مستوها بمتر ونصف. ومعلوم أن الشرقيين لا يدفنون الا الأساقفة والكهنة داخل الكنيسة نفسها لا سيما أن القبور المكتشفة والأسس الأصلية والسطح، هي أمام حنية الرفات والذخائر الكريمة الى اليسار من باب الهيكل. وثمة قطعة رخامية مزخرفة وضعتها حالياً عمودياً بعد أن، وجدنا رفيقتها في حنية الذخائر المذكورة تحتوي على أحرف سريانية بالخط الشرقي (الكلداني) ما عدا الأخير بالاسطرنجيلية (الحرف الكبير) منتشرة وسط زخاف متشابهة اذا ما جمعت أعطت العدد 1139 فاذا ما كان تاريخاً يونانياً كان الميلادي 828 وهو تاريخ مقبول لتأسيس الكنيسة. وليس مستبعداً أن تكون الكنيسة في الأصل (معصرة) أما بنيان الكنيسة الحالي الذي حاولت جهدي أستعادة معالمه الأصلية بترميم فني أجريته مؤخراً فيرتقي الى أوخر القرن الثالث عشر في القسم الأهم منه ثم الى التشويه الذي طرأ على الكنيسة في اواسط القرن التاسع عشر ونهاية الثلث الأول من القرن العشرين وستضح ذلك من وصف الأثار الكتابية والفنية. والكنسية مشيدة (4) على رقعة أرض مساحتها حوالي الف متر اذ أن طولها 28,5م وعرضها 32م أضف الى ذلك سمك الحيطان والأسس الضخمة ننزل اليها بمدرج ذي 17 درجة يقابله مجاز حديث العهد فنصل الى فناء فيه اواوين مقطوعة أو مفصولة من يمين المجاز وامامه وتأتي الى الشمال الكنيسة نفسها أو بيت الصلاة ويتفاوت عرضها ما بين 8,4م وعرضه 10,3م أما طولها فهو 12م عدا الهيكل الذي طوله 7,60م وعرضه 5م وثمة أضافة في مؤخرة الكنيسة طولها 6,3م وعرضها 8,6م ويبلغ طول بيت الشهداء 4,36م وعرضه 3,1م وطول بيت العماد 8,82م وعرضه متفاوت اذ هو 1,4م في الممرات بينما يبلغ 2,61م فسحة الجرن.

من المرجح أن تكون الكنيسة في الأصل الفسحة التي طولها 13م وعرضها 10,5م وهي الممتدة من اقصى المذبح وحتى نهاية صحن الكنيسة الحالي. اما ما اسميناه بالأضافة فلا يمكن أعتباره جزءاً أصلياً لها نظراً لاختلافه الكلي عن مستوى الكنيسة وهندستها فلعله بيت ادخل على الكنيسة فيما بعد لغرض توسيعها. كما أن جدران الكنيسة الخارجي تزينه كتابة تمتد من بداية صحن الكنيسة وتستمر حتى بداية هذه الضافة عينها.

اما أنخفاض سقف جناح الكنيسة الصغير وسقف بيت الشهداء وأنطماس نهايات الأبواب فيرجع الى ارتفاع سطح الكنيسة مع مرور الزمن ويعود على السقف الجناح الكبير الى تجديد عام 1847 والى هذا التجديد ايضاً تنسب أزالة البيم وتغير باب الهيكل المذبح.

آثارها الكتابية والفنية (5)

من أقدم الأثار في الكنيسة جرن العماد، وهو من حجر قرميد أو حلان قديم العهد زخرفته بسيطة ولكنها أنيقة على شكل جدائل مائلة يبلغ قطره 70 سم ويرجع تاريخه حوالي الى القرن العاشر أوبعده بقليل. في الجانب الأيسر من الهيكل حنية مرمرية تحتوي على صندوقين مرمريتين الأول قديم العهد ما عدا الغطاء الذي أضيف أثناء تجديد عام 1937، ويضم ثلاث قطع كبيرة من العظام وقطعتين صغيرتين مع قليل من التراب والخشب والورق المحلي، والعظام هي لقديسين مجهولين، أما الصندوق الأخر فهو من المرمر الشفاف فيه قليل من التراب يخص العذراء مريم فلعله من بيت الناصرة أو بيت لحم أو القبر مربع الشكل طول ضلعه 8 سم مكتوب من أطرافه الأربعة بالاسطرنجيلية بما تعريبه “الصندوق الموضوعة فيه مناث (ذخائر مقدسة) السيدة مريم لكنيسة /بطرس وبولس اتيونمل/ صلاتهم تحفظ بنيها آمين/ في مدينة الموصل سنة 1612” التاريخ يوناني ويقابله بالميلادي سنة 1301، ولعل اتيونمل شخص هندي ملباري زار الكنيسة في أعقاب حجه الى الأراضي المقدسة فأهداها هذه التحفة النادرة ذّيلها بتوقيعه، وقد وضعنا الصندوقين داخل صندوق حديدي مكشوف ضمن حاجز زجاجي. وتحت الصندوقين قطعتان مرمريتان مكتوتان بالاسطرنجيلية وبخط جميل على الأول ما تعريبه “ها هي ميناث ال ، وعلى الثانية “سيدة مريم” يليلها قطعتا الرخام التي تحمل الأولى منهما نقوشاً وأحرفاً هي (عش – مش – نز – شع – 1 – 1) ولعها اللغز الذي أراده الفنان لتسجيل تاريخ تأسيس الكنيسة. ثمة حنية مرمرية أخرى على اليسار تشتمل زخارفها على دوائر ونجمات وفي أسفلها كتابة عربية بالخط الثلث المزخرف “اسعد بدار انت سعد بهاور” يتوسط الحنيتين باب السكرستيا من المرمر وزخرفته أربع نجمات وثلاث صلبان.

باب بيت الشهداء (6) من المرمر الاسود مقوس في أعلاه وذو دوائر منفتحة وواجهة مكونة من ثلاث قطع متداخلة كان ينتهي بمقندلات بترت بعد أرتفاع الأرض وأنخفاض المدخل. حنيته اتابكية خالصة وبالرغم من تشوه جوانبها فهي رائعة فنية، كروية الشكل كأنها نصف شمس أو أكليل ذو ثلاثة عشر طرفاً تزينها نجمتان من الجانبين وعقدة في نهاية المخروط.

باب الرجال من المرمر المنقوش والمكتوب تعلوه كتابة بالخط العربي الثلث البسيط تليها الكتابة الاسطرنجيلية المتحدة من الجانبين أيضاً. وتتوسط الكتابتين زخارف على شكل مثلثات أو نخيل (بالميت) وفي الوسط زخارف على شكل كؤوس مغلقة تتوسطها كتابة اسطرنجيلية ترجمتها “هو بيت/ الرب الروح القدس/ يحل فيه ادخلوا/ فيه أنتم أيها الطاهرون فتنالون الطوبى العليا”.

باب النساء، تعلوه نقوش باب الرجال عينها وتتمة الكتابة الاسطرنجيلية وهو رائعة نادرة أذ أنه خمس قطع مرمرية معشقة على شكل صلبان متداخلة يتوسطها قلب فيه صليب بارز.

اما الكتابة الاسطرنجيلية فتبدأ على علو 30 سم من جدار الكنيسة الخارجي امام بيت العماد مباشرة، وتستمر حتى باب الرجال فباب النساء حتى تنتهي بعد 70 سم منه، وقد تشوه القسم الأكبر منها بل وأزيلت بعض أقسامها أستطعنا أن نقرأ ما تعريبه “بأسم الحي الذي لا يموت المسيح رب المجد … كلهم معك يستريحون في ملكوتك … بيت كنيستك المقدسة هذه ومعك بالمه نفتخر … خبز مذبح الرب الذي منك، لكي هؤلاء بفرح معك، وأحفظهم بمراحمك من الشرير … والاسافل، المجد لك آمين”. والخط بديع جداً جميع الآثار الفنية المذكورة حتى الأن اتابكية العهد وترجع الى أواخر القرن الثالث عشر أو مطلع الرابع عشر.

اما باب الهيكل فالقسم الأعلى منه مطلي بنقوش باللون الازرق وكتابة عربية هي “أنت الصخرة وعلى هذه الصخرة أبني بيعتي” (متى16: 18) ومذيلة بسنة 1847، وهو تجديد للكنيسة كما نستدل عليه بوضوح من قطعة موضوع فوق باب الرجال واجهة الهيكل مرمرية مزخرفة يتوسطها صليب وملاكان من اليمين واليسار ومستطيلات زوجية مزخرفة تنحدر من الجانبين ويتجلى الفن الجليلي فيها، كما في نقوش بيت القربان.

وقد أكشفت في الأيوان الخارجي كتابة كوفية بديعة الخط، ممتدة بطول 10,85م ناقصة البداية وانهاية. في وسط العمود الذي امام باب النساء قطعة رخامية 20 في 16 سم تمكنا من قرءة “اللـه ابي” كما وفي العمود الذي امام بيت الشهداء صليب بارز بديع وفي الفناء نصب من الحجر الحلان، وهو قطعة واحدة طولها 3 أمتار وعرضها 65سم وسمكها 26سم، زخرفتها خمس نجمات مثقوبة تسمح للماء المتسرب الى ساقية تصب في رأس أسد فينفث الماء من فيه، كان قد أهمل فأمسى بلاطه وطلي بالجص، الا أني وضعته في الأيوان الصغير الى يمين الداخل وفي موضع بارز، يرجع بعضهم أن من القرن الرابع عشر بينما أنه نصب أو ضريح آل الجليلي الذي كان لهم قبر في الكنيسة. وقد جمعت قطعاً مبعثرة ووضعت أهمها في الغرفة الصغيرة التي سكنها البطريرك يوحنا هرمز. ولا ريب (7) أن التجديد الأول والأهم هو الذي تم في أواخر القرن الثالث عشر، كما نستدل علية من هندسة الكنيسة وكتاباتها وآثارها، اما أصحاب الفضل فيه فخدر أبو سعيد الذي تطوع بعمل الأبواب، ولعل لعيسى بن ابراهيم اللخمي أيضاً فضلاً في ذلك. ولم يترك التاريخ ذكر تجديد آخر حتى سنة 1847 كما هو جلي من القطعة الرخامية فوق باب الرجال ومن تاريخ واجهة الهيكل. وفي سنة 1904 طليت الكنيسة بالبياض وتصحح بعض ما تهدم منها على نفقة البطريرك يوسف عمانوئيل الثاني، أجريت بعض الترميمات أيضاً عام 1937، وطليت الكنيسة مرة أخرى بالجص في العامين 1958 و 1966، اما التجديد الأخير فشرعنا به، بفضل المطرانية الكلدانية في أيار وأكتمل في نهاية تشرين الثاني 1972 وقد أستعادت الكنيسة بفضله معالمها الأثرية وبرز اقدامها.

المصادر: (1) بين النهرين – الدكتور يوسف حبي العدد 1 سنة 1973 ص59 (2) نفس المصدر ص62 (3) نفس المصدر ص65 (4) نفس المصدر ص67 (5) نفس المصدر ص68 (6) نفس المصدر ص71 (7) نفس المصدر ص77.

الموسوعة الكلدانية – كتاب تاريخ الكلدان صفحة 129 – 135.

الناشر/ شامل يعقوب المختار

عن شامل يعقوب المختار

شاهد أيضاً

عام جديد، فرصة جديدة لك للتوبه

دعونا في عام جديد لا نضيّع هذه الفرصة فالرب دائما ينتظرنا متشوقا لسماع صوتنا فلنندم …