تداعيات التعليم عن بعد

لقد كنت أتأمل فيما يقوله الطلبة وآباؤهم وابناء المجتمع عن تجربة التعليم عن بعد، وكيف أصبح العمل على الإنترنت روتيناً يومياً لمئات الآلاف من الشبان والشابات وبالاساس للطلبة. هذه التجربة فرصة نادرة للتأمل في تحول ثقافي واجتماعي، يجري أمام أعيننا، وربما تترتب عليه آثار واضحه.

المدرسة هي محور التجربة وبناء الحياة القادمه، لأنَّها الرمز الأبرز للنظام الاجتماعي السائد في كل انحاء المعموره، بما فيه من ضوابط وتراتب ومناهج وتصور عن الذات والحياة. كان يفترض أن تلعب المدرسة دور عامل التغيير للأجيال الجديدة، لكن لأسباب مختلفة والان هي قسريه، تحوَّلت على يد آبائنا ومعليمينا إلى قناة لتثبيت التقاليد والقيم الموروثة، أي نقل الثقافة السائدة في الفضاء الاجتماعي العالمي إلى الأجيال الجديدة، كي يواصلوا المسار الذي ورثه الآباء عن الأجداد.
نحن نحاول جعل أبنائنا صوراً اجمل واكثر خبرة وابداعا عنا. ولهذا نشعر بالسخط إذا وجدنا سلوكهم مفارقاً لما ألفناه. ولعلَّ بعض القراء يتذكر غضب المعلمين من الملابس غير المألوفة وقصات الشعر الغريبة عند الطلبة، في السنين الماضية. نعلم أنَّ هذه قد انتهت تقريباً، لكنها لا تزال جديرة بالتحليل.

  • لماذا كان بإمكان المعلم أن يصرخ في وجه التلميذ إذا رأى شعره طويلاً؟ ولماذا يشعر الطلبة بالرهبة من المعلم والمدير اذا شاهده في الشارع والنظام المدرسي عموما؟
    الجواب أنَّ ذلك النظام وما يحيط به من معانٍ وتقديرات دقيقه تعمل لخير الجميع ولبناء حضاري مستقبلي مرموق، مصمم لتعزيز مفهوم مركزي واحد، هو تفاوت القوة بين التلميذ والمعلم اي لبناء شامخ للمعلم والطالب. يمكن للمعلم أن يصرخ في وجه الطالب، لأنَّه يملك نوعاً من السلطة الابويه، ويصمت الطالب مخزياً لأن موقعه في هذا الترتيب يحدد له هذا السلوك، وليس غيره. إن حضور المعلم وهيئته، وجدران المدرسة وأبوابها المغلقة، كلها مصممة كي تخدم فكرة بناء العلاقه الابويه بين التلميذ والمعلم.
    أما الغرض من هذا الترتيب، فهو جعل التلميذ مفتوحاً ومهيأً كي تمارس المدرسة دورها في نقل الثقافة السائدة للجيل الجديد.
    نحن بالواقع الآن في طور او حاله جديده و مختلفه. أبرز ملامحه غياب فارق الروح الابويه عند المعلم وعدم شعور الطالب بالاستقرار والراحه والاطمئنان تجاه المعلم او المدرسه ام حتى المجتمع.
    وغياب او ضعف ما يحيط بالعلاقة بين الاثنين من ترتيبات ورموز السلطة.
    جدران وصفوف المدرسة تركت مكانها لعالم لامتناهٍ جديد جدا، يجيد ويستطيع التلميذ الإبحار فيه، ويملك الأدوات اللازمة للرحلة، كل يوم، بل كل ساعة لو شاء.
    لهذا السبب، فإنَّ المدرسة لم تعد قناة وحيدة لنقل الثقافة، بل مجرد قناة واحده بين عشرات، بل مئات من القنوات الأخرى، الأكثر ليناً وربما الأكثر إمتاعاً وترحيباً. بعبارة أخرى، فلن تقدر المدرسة على تكوين هوية أبنائنا بعد اليوم، وبالتالي فلن يكونوا على الصورة التي ألفناها. ولا أعلم، وهم بالتأكيد لا يعلمون أيضاً، ما هي الهوية أو الهويات البديلة التي نتوقع أن يحملوها. ربما تكون هوية متحولة، حتى هجينيه او ر ولا تستقر على حال.

واجهت هذا التعبير خلال قراءة سابقة حول التحولات الاجتماعية، وما يرافقها من تهميش للمفاهيم والقيم المؤثرة في حياة الجماعة.
نعلم أن التغير في نفوس الناس يجري بسرعات متفاوتة، فالشباب أسرع تغيراً، وأبناء الطبقة الوسطى المدنية أكثر عرضة للتغيير، كما أن ثبات الهويات الموروثة أو انحسارها، رهن بسعة العوالم التي يطرقها الشباب، حين يبحرون في فضاء الإنترنت.
سألت نفسي عن معنى أن تكون الهوية المتغيره، فتخيلت هاتفاً يقول لي؛ كيف تصورت عالماً كاملاً ليس له أي واقع مادي، سمَّيته «الواقع الجديد»، ثم تستغرب من عدم استقرار الهوية؟ سمّها إن شئتَ الهوية الافتراضية او الهجينيه، أي ذلك الوجود الذي لا يمكن تحديده في هيئة خاصة، مع أن آثاره وتمثلاته تؤكد أهميته وامتلاكه لكل ما تتصف به الحقائق المادية.
ما الذي أثار هذا السؤال؟

بقلم: د.خالد اندريا عيسى

عن د خالد عيسى

شاهد أيضاً

عام جديد، فرصة جديدة لك للتوبه

دعونا في عام جديد لا نضيّع هذه الفرصة فالرب دائما ينتظرنا متشوقا لسماع صوتنا فلنندم …