لا غفران في التَجديف على الروح القُدس (متى 12: 30-32)

لطالما كان هذا التَجديف الّذي لا يُغتَفَر ضِد الروح القُدس مُشكلة للمؤمنين، لكِنَّه أيضاً يُمثّل مُشكلة لِعُلماء الكتاب المُقدّس. أوَدُّ أنْ أقول إنِّها علامة تركتها العناية الإلهيَّة في الكتاب المُقدَّس لِتُذَكِّرُنا، إذا كُنّا قد نَسيناها، أنَّ السِرّ مَوجود … ومَهما كانت هذهِ العِبارة غامِضة، فإنَّها لا تزال تَحتَفظ بالعديد مِنَ العناصر حتّى نتَمكّن مِنْ قَبولِها ودَمجِها في قلوبِنا وبالتالي أيضاً في عقولِنا.  

إنَّ عِبارة يسوع هذه، المُدهِشة بالفعل بطبيعتِها، تُصبِح مُقلِقة تقريباً في إستمراريَّتِها الّتي تبدو بأنَّها مُشكلة أبديَّة كالتالي: “مَنْ قالَ كلِمَةً على ابنِ الإنسانِ يُغفَرُ لَه؛ وامَّا مَنْ قالَ على الرُّوحِ القُدُسِ، فلن يُغفَرَ لَه لا في هذِهِ الدُّنيا ولا في الآخِرَةِ” (الآية 32). لإزالة الإحراج الناتج عن هذهِ التصريحات، لِنبدأ أولاً مِنْ حقيقة معنى “التَجديف”، فَفي لُغة الكتاب المقدَّس، معنى التَجديف مُختلف عن المعنى الموجود في فكرِنا. الوصيَّة الشهيرة هيَ: “لا تَحلف باسمِ الله بالباطل”، بالطبع، يمكن تطبيقها بِشكلٍ غير مُباشر على التَجديف باعتباره لعنة سيَّئة السُمعة ضد الألوهيَّة، لكن قيمتها الأساسيَّة تَذهب في اتجاه مُختلف تماماً، تتَميَّز بـ “الباطل أي عبثًا”.  

يُشير المُصطَلح في العبريَّة إلى “غرور” المعبود. لذلك فإنَّ القضيَّة هيَ انحطاط الدين وغَطرسة الإنسان ليُقرّر حَسب الإرادة مَنْ هو الإله الحقيقي، ويضع نَموذَجِهِ لمصلحَتِهِ، وبالتالي تَملَّك صِفة إلهيَّة نموذجيَّة. لذلك فإنَّ “التَجديف على الروح” هوَ خطيئة أعظم مِنْ مُجرَّد حلف أو إهانة للألوهيَّة. إنَّها مِنْ ناحيّة أولى: هجوم جذري وواعي على حقيقة الله الحميميَّة والعميقة الّتي يُمثِّلها روحه. إنَّها ليست خطيئة ضُعف مثل خطيئة الزانيّة الّتي يمكِنُها التوبة وغَفَرَ لها المسيح (يوحنا 8: 1-11). بَل هيَ الشَك في إمكانيَّة الغُفران ورَفضَه تجاه ابن الإنسان، وبَدلاً مِنْ ذلك، إنَّه تَحدٍّ واعٍ يُلقى على الله. وهنا نذكر، على سبيل المثال، رد نثنائيل على الرسول فيليبس الّذي دعاه للقاء يسوع الناصري: “أمِن الناصِرة يَخرجُ شيءٌ صالحٌ؟” (يوحنا 1: 46).  

مِنْ ناحيّة أُخرى، هناك مواقف، خاصة مِنْ الكتبة والفريسيين الّذين يَرون أعمال المسيح المجيدة، ومُعجزاته، والإنقاذ مِنْ الشَر الشيطاني، لكِنَّهم يغلقون أعين العقل والقلب بوعي، لأنَّ الاعتراف بهذا “التَنوّع” ليسوع مِنْ شأنِهِ أنْ يكسر نظام قوّتِهم وتَطوّراتِهم اللاهوتيَّة. لذلك، فإنَّهم يُنكِرون الدليل على الأعمال الّتي يُظهِرها روح الله في المسيح: “التَجديف على الروح” هو، إذن، الرفض الواعي للحق المعروف على هذا النحو، إنَّه الرفض الواعي لِكلمة وعمل يسوع، بالرَغم مِنْ أنَّه يَعلم أنَّ فعلَه حقيقي ومُقَدَّس، يرفضه مِنْ أجل مَصلحتِه “التَجديفيَّة”.  

كتَبَ البابا القدّيس يوحنا بولس الثاني في رسالتِهِ العامة (الروح القدس في حياة الكنيسة) يقول: «لماذا لا يُصفَح عن التَجديف على الروح القُدس؟ كيف لنا أنْ نَفهم هذا التَجديف؟ القديس توما الإكويني يُجيب: “إنَّها خطيئة مِنْ طَبعَتِها لا تُغفَر لأنَّها تَنفي كُل عناصر الغُفران”. إستناداً إلى هذا التَفسير لا يقومُ “التَجديف” على التَفَوّه بِكلامٍ فيه إهانة للروح القُدس، بَل على رفض الخلاص الّذي يُقدّمه الله للإنسان بواسطة الروح القُدس، ويعمل بقوّة ذبيحة الصليب. فإذا رَفَضَ الإنسان تَبكيت الروح القُدس الدائم على الخطيئة، والّذي مِنْ طبعِهِ أنَّهُ يَعمل للخلاص، فهو يَرفض في نفسِ الوقت “مَجيء” البارقليط، ذلك المجيء، الّذي تَمَّ في سِرِّ الفصح مع قوَّة دم المسيح المُخلِّصة، دمَهُ “الّذي” يُنقّي النيّات مِنْ الأعمال الميِّتة» (عدد 46).  

في ضوءِ ذلك، يُمكِنُنا فهم الاستنتاج المنطقي: لا يمكن مَنح الغُفران “سواء في هذا العالم أو في المستقبل”، لأنَّ الافتراض الأساسي للتوبة والاعتراف بالذنب مفقود. إنَّهم يَضعون أنفُسهم خارج أُفق الخلاص الّذي يختارونَه. التعليق المثالي على إعلان يسوع هذا هو في كلمات تلك العِظة العظيمة الّتي نجدها في الرسالة إلى العبرانيين: “فإذا خَطِئنا عَمْداً، بَعدَما حَصَلْنا على مَعرِفَةِ الحَقِّ، فلا يَبقى هَناك ذبيحةٌ كَفَّارةٌ لِلخطايا، بَل إنتِظارٌ مُخيفٌ لِيومِ الحِسابِ ولهيبُ نارٍ يلتهمُ العُصاةَ” (عبرانيين 10: 26-27).  

بقلم : الأب سامي الريّس

عن الاب سامي الريس

شاهد أيضاً

قراءات الجمعة الثانية بعد الميلاد

خروج 15 : 11 – 21 ، ارميا 31 : 13 – 17 من مثلك …