لِنَتأمّل اليوم بِصمت وصلاة في عظمة الصليب الّذي هو أمامَنا، ولنَضع أمام أنظارنا صورتِهِ الحقيقيَّة الّتي تَفوق حدود عقولنا ومفاهيمنا ومشاعرنا. فنحن نعرف كم هو مؤلم جدّاً أنْ يتألّم الأبرياء ويموتون. وهذا ما حدث مع ابن الله الّذي صارَ إنسانًا، لدرجةِ أنَّنا بِمُجَرَّدِ أنْ نوجِّه نظرنا إليه ونتأمّل به، ستكون أنظارنا مليئة بالعبادة والإكرام. اليوم في عيد الصليب لنُقّدم ذواتنا لله ونشارك ابنه في آلامِهِ فتكون لنا مُشاركة حقيقيَّة لا شكليَّة.
قال البابا القديس بولس السادس في 14 أيلول 1971: “لم يختَف الصليب تمامًا في ملامح مَناظرنا الريفيَّة. كما أنَّه يوضع على قبورِ موتانا. ولم يختَف في فصول الحياة الإعتياديَّة. أنّه لم يختفِ مِنْ على جدران منازلنا (أو على الأقل آملُ أنْ لا تطرده الموضة الحديثة مِنَ المنزل، لإفساح المجال لشيءٍ آخر هوَ غرور الإنسان). المسيح هو الشخص المُعلّق، المحتَضر، وبِصمتِهِ الضمني على الألم الفدائي، والرجاء الّذي لا يموت، والحُب الّذي ينتصر ويَحيا. وهذا رائع حقّاً.مرَّة أُخرى، على الأقل بهذهِ العلامة نحن مَسيحيون. ولكن، هل هذهِ الشجرة المأساويَّة والمضيئة للصليب في نفسِ الوقت لا تزال بارزة في ضمائرنا الشخصيَّة؟ … نحن نتذكَّر بالتأكيد أنه إذا كُنّا مسيحيين حقًا، فيجب أنْ نشارك في آلام الرّب ويجب أنْ نحمل صليبنا بِخطوات يسوع كل يوم. المسيح المصلوب هو مثال ومُرشد لنا“.
واجبنا الأول هو المشاهدة. أُنظر إلى الصليب. قال الرب يسوع “وأنا متى أرتفع عن الأرض، سأجذب الجميع إليّ” (يوحنا 12: 32)، قال يسوع هذه الكلمات وهو يقترب مِنْ ساعةِ آلامِهِ، مُستَشهداً بِمَقطع شهير مِنْ سفر العدد حين قال الله لموسى: “إصنع لك حيّةً وأرفعها على ساريةٍ، فكُلُّ مَلدوغٍ ينظُرُ إليها يحيا” (راجع عدد 21: 8 – 9).
تحتاج نظراتنا المُشتتة الّتي تَشغِلُها آلاف الصورة إلى وقتٍ للتركيز بِشكلٍ مُثمر على الصليب. للوهلة الأولى، ربما، قد يبدو لنا مجرد حقيقة تُلهِمنا بالخوف، إلى حَدٍّ كبير هو الازدِراء الّذي يُمارَس على هذا الجسد. أو شفقة، ألم. مِنَ المؤكَّد أنَّ العقوبة وسيلة مُهمة للوصول إلى الصليب. ولكن هذا ليس كافيَّاً. يمكِنُنا أنْ نَشعر بالأسف، وبحق، للآلام العديدة والمتَعدِّدة، للعديد مِنَ التجارب الّتي تؤثّر على الرجال والنساء في العالم. لكننا هنا نتعامل مع إنسان بريء أخذ على عاتِقه، كما يقول النبي إشعيا، كل أخطائنا وخطايانا وجراحنا ونقاط ضعفنا (راجع إشعيا 53: 4 – 5).
يسوع المسيح، بموتِه مُسمَّرًا على الصليب، انتَصر وألغى خطيئة البشر. وبهذه الطريقة أعادنا باستمرار، مِنْ خلالِ قوَّة الأسرار، إلى نضارة وبراءة يوم خلقنا ومَعموديَّتنا. وجعل القربان المقدّس وسِر التوبة، رمز موت المسيح وقيامته، في كُلِّ مكان وزمان.
إنَّ النظر إلى المصلوب لا يعني فقط التَماهي مع ألمه – بل ستكون بالأحرى حركة لاحِقة – وهيَّ فتح قلوبنا، وإندهاشِنا وأمتنانِنا، لِعَظمةِ حبِّهِ وإحسانِه. بالنظر إلى الصليب، يمكن أنْ تساعدنا كلمات بولس كثيرًا: “لقد أحبني وأسلم نفسه من أجلي” (غلاطية 2: 20). مِنَ المؤكد أنَّ يسوع بذل حياته مِنْ أجل جميع البشر ولكُلِّ العُصور. من بين هؤلاء، أنا أيضًا. هو أيضا فكَّر بي على الصليب.
مِنْ خلالِ نِعمة المعموديَّة والإيمان، يريد يسوع أنْ يبني صداقة مع كُلٍّ منّا على حِدة. وقِصَّة مُختلفة بين الواحد والآخر. إنَّه يُفكِّر فينا واحدًا تِلْوَ الآخر. كل عذاباته وآلامِهِ وحبِّه هيَ هديَّة يقدمها لي مُباشرة. الحُب البَشري، وحتّى المزيد مِنْ الحب الإلهي، له القُدرة على إعطاء نفسه والوصول إلى الكثيرين، دون أنْ يتَضاءل، بل يبقى بنفس القوّة وبِنَفس الشَغَف.
طريقة أُخرى مهمَّة للذهاب مع مشاعر الامتنان تجاه الصليب هوَ الكتاب المقدَّس. بالطبع، يتواصل الله معنا بِعدَّةِ طُرق، لكن الكتاب المقدَّس يَظلُّ دائمًا وأبداً الوسيلة المُميَّزة للإصغاء إليه وهو يُحدِّثُنا. لقد تنبأ الأنبياء، ولا سيما إشعيا، بالعديد مِنْ جوانب آلام يسوع وتضحيَّة المسيح الكفارة للذنوب، فَمَحتها وأزالتها، وتخبرنا الأناجيل بهذه الحقائق. يتأمَّل القدّيس بولس وكتّاب العهد الجديد الآخرين باستمرار في هذه المواضيع، وهي الأساس الحقيقي والوحيد لإيماننا.
دعونا نفتح كتاب كلمة الله بفرح وامتنان، دعونا نُردِّدَه معًا، دعونا نسمح لأنفسنا أنْ نتَعرَّف عليه عن طريق أولئك الّذين يحبّونَه ويعرفونه أفضل. مِنْ خلالِ قراءة وإعادة قراءة النصوص الّتي تعتبرها الكنيسة موحى بها، كلمة الله نفسه، وبالتالي سنتَمكَّن مِنْ فهم أبعاد مَحبَّة المسيح وتضحيَّتِه مِنْ أجلنا أكثر فأكثر. وسنحصل كنِعمة على الكثير مِنَ القوّة والكثير مِنَ النور لاحتضان الصلبان اليوميَّة، وللدخول في الآلام والتجارب الّتي يتَطلَّبها كُلٍّ منّا.
إنَّ النظر إلى المصلوب يعني أيضًا تعلّم العبادة، أي المسافة اللامحدودة الموجودة بين الله وبيننا، والّتي ملأها بنزوله على الأرض، وانحنائه على إنسانيَّتنا، وعطشه إلينا. العبادة للصليب، وكذلك العبادة الإفخارستيَّة، هيَ المدرسة المُميزة لكل هذه النِعَمْ. هنا نتعلَّم الصَمت، وعُزلة الله، وفي نفسِ الوقت قوّته المنيرة والجذّابة. نتعلّم رغبته الثابتة في التواجد في كُلِّ أماكن حياتنا وجذبنا إليه، ليس بقوّة الفرض، ولكن بشفافيَّة حياته، بِسحرِ إنسانيَّته.
إنَّ عيد الصليب، الّذي نحتفل به اليوم، يجعلنا نقبل مَحبة المسيح، ومعرفته بشكل أفضل، وقبوله في القربان المقدّس، والتَحوّل مِنْ خلالِ النِعَمْ الّتي لا تُحصى إلى تلاميذه. آمين.
بقلم: الاب الدكتور سامي الريس