الانساني الرائع
قبل ما يقارب الالفي سنة ظهر رجل في احدى البقاع من الشرق الأوسط أسس تعاليمه على العدل والمحبة ونادى بهما وعمل من اجلهما طوال سني حياته. فكانت حياته كلها دفاعاً مستمراً عن كرامة الإنسان وعن حريته ضد كل أشكال الظلم والاستبداد والاستعباد والاستغلال مهما كان مصدرها وأياً كان نوعها. سواء أكانت صادرة عن التصرفات الخاطئة للإنسان أم من أصحاب السلطة المنافقين أو من الممارسات الشكلية والتقاليد الدينية والاجتماعية.
وجعل المحبة فوق كل تعاليمه وأعظم من جميع الأمور التي تحكم العلاقة الصحيحة بين الناس.فأرسى قواعد الاخوة الشاملة بين البشر والمساواة بين جميع الناس. وقضى على كل أنواع التفرقة سواء كانت قومية او دينية او اجتماعية. ام كانت على أساس المنصب او الرتبة او الموقع الاجتماعي او المهنة. فلا فرق في الكرامة والحرمة بين الملك والرئيس والشيخ والمالك والكاهن وبين الانسان العادي. وألغى تقسيم البشر الى اسياد وعبيد حيث قال بان من أراد أن يكون عظيماً فليكن خادماً، ومن أراد أن يكون الأول فليكن عبداً للجميع.
وقد أوصى بالمحبة لجميع الناس حتى للأعداء حين قال انه قيل أحبب صديقك وأبغض عدوك أما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم وأحسنوا الى مبغضيكم والذين يسيئون إليكم ويضطهدونكم.
وحذر من احتقار الإنسان أي إنسان مهما كان صغيراً أو ضعيفاً وأوجب احترامه وعدم انتهاك كرامته. ونبه الى ولخص تعليمه عن العدالة واحترام حقوق وكرامة الإنسان في جملة واحدة تُعتبر بحق القاعدة الذهبية والأساس المتين لمجتمع العدالة والكرامة ألا وهي: عاملوا الناس بمثل ما تريدون أن يعاملوكم.
ولم يكتفي بإطلاق الأقوال وإصدار الأوامر والتوصيات كما عمل ويعمل كل الفلاسفة والمفكرين الاخرين لكنه توج أقواله بالأفعال فجاءت أفعاله ناطقة وأقواله فاعلة. وكان أول من يطبق ما يقول لذا كان مصدر ثقة وتقدير للجميع حيث كانت مواقفه وتصرفاته تشع حباً وحناناً واحتراماً للإنسان.لكل إنسان بغض النظر عن حاله سواءً أكان غنياً أم فقيراً، قوياً أم ضعيفاً، رئيساً أم مرؤوساً، سيداً أم عبداً، مؤمناً او ملحداً. وقد خص بهذا الحب والحنان الفقراء والمنبوذين والمحتقرين والمظلومين وكل الذين كانوا يرزحون تحت نير الظلم والاستغلال. فنجده لطيفاً مع الجميع فليس هناك في نظره أي إنسان يستحق النبذ والاحتقار. نراه يقف بحزم ضد كل من يمارس الظلم والاستبداد والخداع والتضليل فرداً كان أم سلطة، دينية كانت أم مدنية. فقد فضح مكر حاكم زمانه(هيرودس) ناعتاً إياه بالثعلب. وكشف رياء ونفاق رجال الدين ورؤساءهم وبيّن زيف تعاليمهم ودعاهم قادةً عميان.
حارب كل العادات والتقاليد التي تحط من كرامة الإنسان وتنتهك حريته مهما كان مصدرها وآيا كان إطارها فلم يتمسك بها بل وقف ضدها وخالفها. فنجده يخالط الجميع ويجالس كل الناس ويعاملهم باحترام ويشعرهم بقيمتهم وكرامتهم ويبعث فيهم روح الثقة بالنفس ويرفع معنويات اليائسين، ويوقد شعلة الأمل في قلوب المنكسرين فكان يشعر الجميع بقربه، بالفرح والنور والأمل والرجاء.
ونجده لا يميز بين الرجل والمرأة. حيث يعقد حواراً طويلاً مع المرأة السامرية. ويرضى أن ترافقه النسوة في جولاته مثل الرجال. ويعطيهم حقوقاً مساوية للرجال ويطلب بان يعاملن بنفس القدر من الكرامة والاحترام مثل الرجال فنجده يدافع عن امرأة كانت قد ضبطت في حال الزنى وجُلبت الى وسط ميدان واجتمع الرجال حولها يريدون رجمها بالحجارة حسب تقاليدهم الدينية والاجتماعية، فنراه يخاطبهم ويبين لهم ان لها الحق ان تُعطى فرصة لإصلاح نفسها والعيش بكرامة مثلما يرغب كل واحد منهم ان يحظى بذلك عند وقوعه في خطأ ما بقوله لهم مَن منكم لم يرتكب خطأً فليرمها بحجر فيجعلهم يشعرون بالخجل ووخز الضمير فيتركون الحجارة وينسحبون.
اما الناس المصابون بأمراض وعاهات مختلفة مثل العمى والشلل والبرص وغيرها. فكانوا معتبرين ملعونون من الاله وعليه كانوا منبوذين ومحتقرين من المجتمع وكان العرف السائد يفرض عدم التقرب اليهم او اسداء أي نوع من المساعدة لهم. لكنه كان يمنح لهم كل رعاية وعناية. فنراه يجالس الخطأة ويشاركهم المأكل ويجيب الى استغاثة المرضى والمعوقين ويقدم لهم الشفاء ويعيد لهم الأمل في الحياة. وأما البُرص الذين كان قد حُكم عليهم بالعزلة وفُرض عليهم الإعلام عند اجتيازهم بمكان ما بقرع جرس في يدهم ليتسنى للناس الابتعاد عنهم، فقد لقوا من لدنه كل العطف والحنان والرعاية والاهتمام فكان يدعوهم للاقتراب منه ويمنح لهم الشفاء والتطهير فيفتح أمامهم أبواب الحياة الحرة الكريمة.
لم يقتصر اهتمامه بالإنسان والتعبير عن احترامه له وإعطائه حقه على الجوانب الروحية والمعنوية فقط بل شمل أيضا النواحي المادية والحاجات الجسدية فنجده يوصي بإطعام الجائع وإرواء العطشان حتى وإن كان عدواً! وقال بان الفوز برضى الله والحصول على السعادة الموعودة يتوقف على ما يقوم به الإنسان من أعمال الرحمة والمحبة تجاه أخيه الإنسان كإطعام الجائع وإسقاء العطشان وإيواء الغريب وإكساء العريان وزيارة المريض وتفقد الأسير والسجين. ولكي يبين ما لهذه الأمور من أهمية كبيرة قال ان عند ما يقوم الانسان بعمل مثل هذه الأعمال لأخيه الإنسان فهو يعملها لله نفسه! وجعل هذه الأمور حقاً للإنسان على الإنسان وان من لا يقوم بها هو مقصر بحق أخيه لا بل وبحق الله نفسه لذا يستحق التعاسة في العالم القادم.
واوصى ان يسدي الإنسان هذا العون لأخيه الإنسان بطريقة لا تنتقص من كرامته أو تجرح شعوره.لذا يطلب منا ألا نزمّر ونطبّل عند قيامنا بمثل هذه الأعمال بل أن نؤديها بسكينة وهدوء وتواضع.
وإذا ما دققنا في كلامه بهذا الصدد سنكتشف بانه لا يدعونا الى التصدق من فائض مواردنا بل الى اقتسام ما لدينا منها مع من هو في حاجة ماسة اليها. ويؤكد بان للمعوزين الحق على غيرهم إذ يوصي بدعوتهم الى الولائم وليس المترفين الذين ليسوا في حاجة بقوله: إذا أقمت وليمة غداء أو عشاء فلا تدع إليها أصدقاءك الأغنياء والمترفين… بل الفقراء والمحتاجين فهنيئاً لك إذا فعلت ذلك لأنك ستكافأ في عالم الأبرار.
ونراه يهدد من يسلب الآخرين قوتهم بعقاب شديد فيقول موجهاً الكلام لمعلمي الشريعة والدين:الويل لكم أنتم الذين تأكلون أموال الأرامل واليتامى بحجة إطالة صلواتكم. ويقول بان القيام بهذه الاعمال خير من الصلاة والقرابين مؤكداً ان الله يريد رحمةً لا ذبيحة.
هذه وغيرها من الأمثلة تبين لنا من ناحية مدى حرص ذلك الإنسان على صون كرامة الانسان وحقه في الحصول عل الحياة الحرة الكريمة. ومن الناحية الأخرى مدى شجبه ونبذه لكل أنواع الاستغلال وكل ما من شأنه المساس بكرامة الانسان وحقه تحت أية ذريعة من الذرائع ومن قبل أية سلطة على وجه الأرض.
فهل تعرفت على هذا الرجل؟
بقلم : الاب دانييل شمعون