من التعابير الإنكليزية الشائعة ما يُنسَب إلى مثل صيني – أو لعنة صينية – تقول ترجمتها: “فلتعشْ أيامًا مثيرة”، أو “فلتعشْ أيامًا مشوّقة”. ربما يكونُ جيلنا محظوظًا، لأنّهُ عاشَ ليشهدَ أربعةَ حوادث “مثيرةٍ ومشوقة”، أدّى كلٌّ منها إلى تغييراتٍ جوهرية في الاقتصاد والسياسة والحياة الاجتماعية والصحيه لأجيالٍ مقبلة.
بعدَ عقودٍ خمسة من جمود الحرب الباردة،
- انهارَ جدارُ برلين،
- وانضمت الصين إلى الاقتصاد العالمي،
- ودخل الاقتصاد العالمي ما يقاربُ مليارًا ونصفَ المليار من مواطني الصين وروسيا،
ودولِ الاتحاد السوفياتي السابق، وأوروبا الشرقية.
وبعدها بسنواتٍ، - جعلتْ شبكةُ الإنترنت العالمَ قريةً كونيةً واحدة.
- ثم وضعتْ هواتفُ “آيفون” كلَّ ما نحتاجُ إليه من معلوماتٍ وموسيقى وتواصلٍ اجتماعي في متناول أيدينا.
- والآن، يؤسس فيروس كورونا لمرحلة جديدة قد يكونُ سابقًا لأوانه استكشافُ معالمِها كاملةً.”
لذلك من السابق لأوانه:
أولًا، معرفةُ إذا ما كانتِ الصين ستتفوقُ على الولايات المتحدة في قيادةِ العالم في القرون القادمه،
وإذا كان الاتحاد الأوروبي سيبقى موحدًا بعد تلقيه صدمةَ “بركسيت” ثم إغلاق الحدودِ خلال أزمة “كورونا”؛
ثانيًا، التنبؤُ بكيفيةِ تغيّرِ الاقتصاد العالمي عندما تبدأ دولُ الغربِ إرجاعَ بعض الصناعات التي لُزِّمتْ للصين إلى أسواق قريبة جغرافيًا وسياسيًا، وحتى حضاريًا؛
ثالثًا، معرفةُ مدى التغيير الذي سيلحق بالنظام التعليمي الراهن، وتأثير تحريرِ رأس المال المحتجز في مبانٍ مدرسيةٍ وجامعية جعلتْ شبكةُ الإنترنت معظمَها لزومَ ما لا يلزم! فلنتخيلْ معًا سعادتَنا باستعادةِ ساعاتِ العمل المهدورةِ في زحمةِ السير، والتلوثِ البيئي الناتج عن توصيل التلاميذِ وإرجاعهم من مدارسهم؛
رابعًا، معرفةُ حجمِ التغييرِ في نظام الرعاية الصحية باكتشافنا سهولة الاستغناء عن ساعات الانتظار في عيادات أطباء الصحة العامة، معرّضين أنفسَنا لأنواعٍ من العدوى؛
خامسًا، معرفةُ سرعةِ البدء باعتمادِ التقنيةِ المتوافرة في أجهزة الهاتف الذكية القادرة على قياس المؤشرات الحيويّة للجسم لأجراء فحوصاتٍ طبية عن بُعد، والاستغناء عن زيارات الأطباء؛
وأخيرًا، التنبؤُ بتغيراتٍ في التحالفاتِ السياسية والاقتصادية وقوانين العمل والتعليم.
إلّا أن الأسابيعَ القليلةَ الماضية أعطتنا الكثيرَ من المؤشرات عن التغييرات في حياتنا اليومية وعاداتنا الاجتماعية، ومتطلبات السفر والسياحة والتسوق. فقد أكدت منظمةُ السياحةِ العالمية توقعَها انخفاضَ أعداد السياح بأكثرَ من خمسة وعشرين في المئة في العام الحالي. ومن المرجّح أن تزدهرَ السياحةُ المحلية، أو الأقليمية، وتسبقَ السياحةَ العابرةَ للقارات، ما يعني أن الدولَ والشركاتِ التي استثمرت بكثافة في بناء مراكز التسوق الضخمة ستواجهُ الكسادَ والركود.
وربما تواجه المعارضَ والكازينوهات ومدنَ الملاهي صعوبةً في استعادة معدلات الإشغال التاريخية، كما ستواجه السفنُ السياحية التي تشكل الخيار المفضل للمتقاعدين في أميركا الشمالية صعوبةً في إقناع الناس بحجز رحلاتهم المقبلة خصوصًا بعدما أكد مركز السيطرة على الأمراض والوقاية في الولايات المتحدة أن عدوى فيروس كورونا أصابت أكثرَ من سبعمئةٍ من ركاب سفينتي “غراند برينسس” و”دياموند برينسس”، كذلك أكدت السلطاتُ الكندية وفاةَ أربعةِ مواطنين كنديين على متن سفينة “هولاند أميركا” الراسية مقابل شواطئ بنما.
بناءً عليه، يتعينُ على مشغلي هذه السفن إعادةُ بناءِ ثقة العملاء من خلال اعتمادِ تدابيرَ موثوقةٍ لحماية الركاب من الفيروسات.
ينطبق الشيء نفسه على الحدائق الترفيهية ومنتجعات التزلج والملاعب الرياضية والحفلات الموسيقية، وكل تجمع يفوق عدد جمهوره أصابع اليد الواحدة. أصبح ضروريًا تركيب معدات فحص الفيروسات عند مداخل هذه الأمكنة قبل أجهزة الكشف عن المعادن. فلنتخيلْ معًا حجمَ سوق هذه المعدات التي ستتمتع به الشركات المصنعة مثل “جنرال اليكتريك” و”سيمنز” و”فيليبس”. كما ستصبح معقمات الأيدي والأسطح بنسبة تركيز بين ستين وخمسة وسبعين في المئة جزءًا من أنظمة الأمان في السيارات، والمواصلات العامة، والفنادق، ومقاعد الطائرات، وفي كل فضاء عام.
ستصبح أيضًا آلات فحص الفيروسات جزءًا من متطلبات السفر،
وستُثَبّتْ في المطارات قبل آلات التفتيش عن المتفجرات التي صارت جزءًا من حياة المسافرين منذ هجمات 11 سبتمبر الاسلاميه، ما يعني أن فحوصات الفيروسات الصينيه ستصبح جزءًا من إجراءات السفر قبل السماح لنا بالصعود إلى الطائرة.
وستُنشأُ قاعدةُ بيانات وبإطار قانوني وتقني لمشاركة البيانات الصحية للمسافرين، مثلما جرت مشاركةُ الملفات الأمنية للركاب بين معظم دول العالم حاليًا.
وستُضاف ملاحظةُ “خال من الفيروسات” إلى بطاقات الصعود إلى الطائرة لكل منّا. سيكون لهذه الإجراءات أثرها في سهولة السفر وكلفته، وسنتحمل – نحن المسافرين – الكلفةَ الإضافية.
تجدر الإشارة إلى أن الصين توقّفت بالأمس عن استقبال المسافرين من جنسيات أخرى حتى إشعار آخر.
بالتالي، سيكون صعبًا إعادة فتح الحدود بين الدول من دون التأكد من خلو القادمين من أي فيروس ربما يشكل خطرًا على السكان المحليين.
نتيجة لذلك كله، ستحقق شركات الطيران الداخلية الإقليمية أداءً أفضل (نسبيًا) على حساب ما عُرف بالطيران العابر للمحيطات الذي سيطر على المشهد في السنوات العشرين الماضية.
وأعلنت منظمة “أياتا” أن الأزمة الحالية ستؤدي إلى خسارة 250 مليار دولار من عائدات صناعة الطيران الدولية للعام الحالي.
بالتالي، ستضطر شركات الطيران إلى الاندماج، أو تقليص حجم عملياتها، وسوف تتطلب عمليات إنقاذ مالية ضخمة، في حين أن بعضها سيعلن إفلاسها.
وذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال” أن شركات الطيران الأميركية طلبت من الحكومة منحًا نقدية، لا قروضًا مدعومة… وردًا على ذلك، أعلن وزير الخزانة الأميركي أن الحكومة ستتملك حصصًا في كل شركة تتطلب حزمة إنقاذ مالية؛ لأن أموال دافعي الضرائب الأميركيين يجب ألا توزع بصفتها هبات. هل تتذكرون محاولة شركات الطيران الأميركية مقاضاة شركات طيران الخليج بدعوى المنافسة غير المشروعة بسبب حصولها على إعانات حكومية مزعومة في عام 2014؟
يضاف إلى ذلك أن قوانين السلامة العامة في المباني ستُحدّث بدءًا من تحديث مرشحات الهواء المستخدمة في المباني السكنية والأماكن العامة لضمان القضاء على 99 في المئة من الفيروسات المنتقلة جوًا. وستصبح مصفاة مكيف الهواء في منازلنا وفي مراكز التسوق فاعلة مثل مصافي الهواء المستخدمة في الطائرات الحديثة. لكم أن تتخيلوا حجمَ زيادة مبيعات مصافي الهواء نتيجة الحاجة لتركيب هذه المصافي في ملايين المباني ومركبات النقل العام في العالم.
إلى ذلك، سيصبح فتح الأبواب يدويًا في الأماكن العامة، ومحلاتِ التجزئة، والمراحيض العامة وكل مكان عام شيئًا من الماضي. كذلك، فإن مهمة مجففات الأيدي في المراحيض العامة ستتغير من تجفيف الأيدي إلى تعقيمها من الفيروسات، إمّا بالأشعة فوق البنفسجية، أو بخلط الهواء مع كمية معينة من مطهر الأيدي. بكل بساطة، من الآن وصاعدًا، يجب تعقيم وتطهير كل مساحة مشتركة وكل هواء مشترك في مكان مغلق بين البشر.
في المحصلة، أغلق فيروس كورونا الحدودَ والمطارات والأماكن العامة. أقفل أبواب المنازل والمدارس والجامعات، لكنّه فتح أبواب المستقبل على تغييرات تحمل معها تحديات كبرى نحن قادرون على تحويلها إلى فرص حقيقية للنمو ولتنويع مصادر الدخل. فرصة ربما لن تتكرر لبناء قاعدة صناعية تنافس الصين التي لن تستطيع دبلوماسية المساعدات الطبية محو آثار احتضانها للفيروس أسابيع طويلة من دون تحذير دول العالم من خطورته. سيغلق الفيروس مطاراتنا وطرقنا أسابيع قليلة، لكنه سيفتح أبوابًا لبناء نظام صحي وتعليمي واقتصادي أكثر فاعلية وإنتاجية، وأكثر مواءمة مع تقنيات العصر وتحدياته.
أخيرًا، رحم الله من قال إن المصافحة القوية علامة من علامات الثقة بالنفس.
فلا مصافحة بعد اليوم!
د.خالد اندريا
منقوله بتصرف