لن أولد من رحم أمي؟


أمي معي!
أبني معي!

كلمة الأمومة لها معاني سامية ونبيلة رفيعة المستوى والقيم الأنسانية التي تمتزج بها الروح والحياة ويجري دماء الأم من شراينها الى الأبناء، ولكن بعض الآحيان تُعبر الكلمات القصيرة النابعة من القلب والأحساس المرهف لتترجم هذه القيم العليا معاني الأمومة العظيمة.
في أحد أيام فصل الربيع في هولندا الجميل والزاهر التي تكسو مساحة أرضها وحقولها ومزارعها وساحاتها بالون الأخضر، لون الحياة والعطاء والخير، وترتفع بينها سيقان الزهور والورود الملونة الجميلة لتعانق السماء، وكائنك تعيش في جنة عدن.
قرر رجل بعقد الأربعين من العمر أن يقوم بنزهة في البلاد ليتمتع بالطبيعة الخالبة التي خلقها اللـه، وهو يعيش منذ سنوات قليلة فيها، هو قادم من العراق، أرض الحضارات والثقافات، أرض الرافدين دجلة والفرات. وأن تكون رحلته لهذا اليوم بالقطار بدلاً من أستعمال سيارته، وأثناء رحلته تبين وجود تحويلات في مسار حركة القطارات، لأن في هذه الأشهر يتم أدامة خطوط السكك بسبب العطلة المدرسية والأجازات الصيفية، حتى لا تؤثر على مسيرة العمل والدراسة.
وبعد محطتي، حتى وصل المحطة الثالثة صعد بالقطار وجلس بمقعد مقابل يسع أربعة اشخاص، بعد ذلك جاء زوج زوجته وجلسا أمامه، بعدها جاءت سيدة وقورة بعمر ما بين السبعين والثمانين سنة، والشيب يغزو شعرها وبين خصل تسريحة شعرها شعيرات سوداء ورصاصي اللون التي أمتزج به روح الشباب، وحكمة الوقار، ومنظرها الخارجي كأنها أمراة بعمر الشباب وتببض بالحيوية من كثرة أناقتها، وحشمة ملابسها، وجمال مكياجها، ولم تخفي بصمات شيخوتها الموقرة على وجهها المبتسم.
بعد أن تحرك القطار دار الحديث حول الطقس الجميل، هذا هو بداية أي حديث الناس في هولندا، لأن الطقس مهم جداً في حياة الهولنديين، بعدها تحول الحديث عن سير القطار وفي أي محطة يتوقف، بعدها تتدخل الرجل وقال: معي برنامج سير القطار يمكن أن تتطلعوا عليه، بعدها سأل الرجل المقابل الرجل الى أي مدينة أنتَ ذاهب، أجاب الرجل: الى مدينة اوتريخت، وقال نحن ذاهبين الى أمستردام، فيجب علينا أن نأخذ القطار الأخر من المحطة القادمة في مدينة أمسفورد، أما المرأة الكبيرة وأنا أريد أن أذهب الى أوتريخت، أجابها زوج المرأة: أذهبي مع هذا الرجل هو ذاهب اليها، بعدها قال الرجل: يا سيد ممكن أن ترافقك هذه السيدة معكَ.
قال: نعم أخذ أمي معي، ولن يقول سيدة، وهي نظرت اليه بتعجب لطيف!
وصل القطار مدينة أمسفورد تبادل الجميع كلمات الوداع بقضاء يوم سعيد في هذا اليوم الجميل.
فقالت زوجة الرجل: الى السيدة، هل تذهبين مع هذا السيد ليساعدكِ؟
أجابة السيدة الوقورة بالفور: نعم، أذهب مع أبني.
أخذ الرجل السيدة الكبيرة معه بعد أن ساعدها بنزول عربة القطار، وهما يسيران على رصيف محطة القطار، طالبت منه أن تذهب الى المرافق الصحية، فقال ماما: المرافق بعيدة في الطابق الاعلى من المحطة.
فقالت: ممكن أن تساعدني.
فقال لها نعم: بعد أن تأكد من وصول القطار القادم يستغرق حوالي عشرين دقيقة تقريباً.
أخذها بيده وأصعد معها الدرج حتى باب المرافق الصحية، هنا وقفت السيدة وأخرجت خمسين سنت أجور أستخدام المرافق، وسلمت حقيبتها الصغيرة، وحقيبة أخرى كبيرة الى الرجل ودخلت المرافق الصحية.
الرجل أخذ الحقيبتين، ويدور في خلجانه، حقيقة أم خيال أوهام. كيف تسلمني حقبتها، ومن أنا ومن هي، وماهي هذه الثقة العالية. وهو في حيرة من أمره، وليس هذا فقط، أنه واقف ينتظرها أمام باب مرافق النساء، وهذا ليس من مبادئ الأداب والأخلاق والمنطق والسلوك العام، ومرت الدقائق القليلة وكأنها ساعات وأيام، حتى خرجت تنفس الصعداء، وسلم لها الحقيبتين، وأخذ بيدها الى رصيف المحطة وبعد أن صعدوا القطار المُتجة الى مدينة اوتريخت، ويستغرق سيره حوالي نصف ساعة تقريباً.
دار حديث بين الأم والأبن داخل القطار، وقالت له: أمكَ على قيد الحياة، قال لها: ماتت منذ سنوات وأبي مات قبلها. وسألت هل أنت متزوج؟ قال لها: نعم ولدية أطفال.
قالت المرأة: لماذا لم تناديني سيدة، وناديتني أمي؟
قال لها الرجل: من عاداتنا في العراق ننادي المرأة الكبيرة أمي أو عمتي، والرجل الكبير نناديه عمي أو خالي، والمراة الشابة نناديها أختي، والمراة تنادي الرجل أخي في الطريق والأسواق والأماكن العامة.
قالت هذا شيئ جميل يدل على الأحترام والمودة والأخوة.
فسأله الرجل الى أين أنتِ ذاهبه في هذا اليوم الجميل؟
قالت: الى أولادي كلهم مجتمعين مع زوجاتهم وأطفالهم وبعض المقربين لنتحفل بعيد ميلاد أحدهم.
فقال الرجل: أين تسكنين؟
قالت: في مدينة آسن، وتبعد عن سكن أولادي ثلاثة ساعات بالقطار تقريباً.
قال الرجل: لماذ لم تسكني قريب عن أولادكِ وأحفادكِ؟
قالت: لدية ذكريات جميلة في هذه المدينة وزوجي مدفون هناك ولدية علاقات طيبة مع الجيران وأصدقاء العمر.
وصل القطار الى المدينة وساعدها بنزول عربة القطار، وهو ماسك يدها حتى أوصلها الى ساحة وقوف الحافلات، حتى وقت مجيئ أنطلاق الحافلة التي تصعد بها وتذهب الى أولادها، ولكن قبل صعودها حضنته بين أيديها وضمته الى صدرها وقبلته، وقالت له: أذهب يا أبني، بالمقابل هو قَبل رأسها بعدها قَبل يدها، وأتمنى لها يوم سعيد وأحتفال جميل مع أولادها واحفادها؟
يا لها من سويعات ولحظات حرجة وصعبة، ولكن جميلة مملوء حنان ودفء تُعيد ذكريات أمنا التي ولدتنا، وترى وتعيش مع أم لم تُولد من رحمها بل تُولد أم في أشجانك وتقدم لكَ حنانها وعطفها وثقتها وحبها في بلاد المهجر. فينما ذهبت سوف تجد هنا وهناك أم وأمهات في أرجاء العالم.
تذكرني هذه القصة الواقعية أثناء صلب السيد المسيح على الصليب حينها قال:
فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ أُمَّهُ، وَالتِّلْمِيذَ الَّذِي كَانَ يُحِبُّهُ وَاقِفًا، قَالَ لأُمِّهِ: يَا امْرَأَةُ، هُوَذَا ابْنُكِ. ثُمَّ قَالَ لِلتِّلْمِيذِ: هُوَذَا أُمُّكَ. وَمِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ أَخَذَهَا التِّلْمِيذُ إِلَى خَاصَّتِهِ. يوحنا19: 26 -27. فكم من قصة وحكاية نتعلمها من الكتاب المقدس وتعاليم السيد المسيح في حياتنا.
بمناسبة عيد الأم نهدي أجمل آيات التهاني وأعطر التبريكات المحملة بأريج الورد وعبير والزهور الى كافة أمهات العالم بعيدهم الأغر السامي.

شامل يعقوب المختار

عن شامل يعقوب المختار

شاهد أيضاً

الكنعانيون

سفر تثنية الاشتراع 23 / 13 – 14 وليكن لك خلاء خارج المخيم تخرج إليها …