الصوم هو إعادة إكتشاف الذات

تَبدأ حياة يسوع العامة بتَحضير مُهم لمسيرة روحيَّة: 40 يوماً مِنْ الصوم في الصحراء (متى 4: 2)، والّتي مِنْ خلالِها سيَستَطيع يسوع مُحاربة الشَر، والانتصار عليه بِسهولة. وهذا يُحفّزنا الى إعادة اكتشاف العلاقة بين الصوم وحياتِنا. في الوقت الحاضر، يُعتقد أنَّ الصوم هو مُمارَسة مُرتَبِطة قبل كُل شيء بجماليَّاتِنا ومَظهَرنا. نحن نعيش في عالمٍ جَرَّدَ مَفهوم الصوم مِنْ محتواه وحوَّلهُ إلى نظرة غذائيَّة، لكن الفارق كبير بين تفكير الكنيسة عن الصوم وتفكير العالم، فالقُدرة على الامتِناع عن الطعام، أي عن الحاجة الجسديَّة، هيَ القُدرة الّتي يُمارسها المسيحي لإعادة تأكيد حرّيَّتِه مع احترام احتياجاتِه أيضًا. إنَّه مثل الرغبة في الاهتمام باحتياجاتِ القلب (أي الحاجة إلى المعنى)، ووضع احتياجات المعدة (أي كُل ما يتَعلَّق بحياتِنا الماديَّة) في مرحلةٍ ثانية مِنْ الأهمّيَّة. فالرَب يسوع يؤكّد بأنَّ الإنسان لا يعيش على الخبزِ وحده، بل على كُلِّ كلمة تخرج مِنْ فَمِ الله … مِمّا يعني أنَّه لن يُسعِدنا أبداً أنْ نملأ بطونَنا فحَسب، بل نُغذّي أنفُسِنا بشيءٍ يملأ حياتِنا بالمعنى. نعم مِنْ خلالِ الصوم نضع شيئًا ما في المركز، أو بالأحرى شخصاً يملأ حياتنا بالمعنى.

هكذا، لكي يُعيد الإنسان اكتشافَ حقيقَتِهِ، تلك الحقيقة البشريَّة الّتي تصبح بالنعمة حقيقة مسيحيَّة، مِنْ الضروري التَفكير، والصلاة، ومُشاركة الخيرات، ومَعرِفة الشَر الّذي يَسكنُنا، ولكن أيضًا مُمارسة الصوم كزمنٍ ضروري.
ينتمي الطعام إلى سجلِ الرغبة، فهو يَفيض بالوظيفة الغذائيَّة البَسيطة ليأخذ دلالات عاطفيَّة ورمزيَّة ذات صِلة. لا يتَغذّى الإنسان في حَدِّ ذاتِه على الطعام وحده، بَل يتَغذّى على الكلمات والإيماءات المُتبادلة، وعلى العلاقات، وعلى الحُب، أي على كُل ما يُعطي معنى للحياة، وعندما يتَغذّى بالطعام فهو يَدعمها. مِنْ ثَمَّ، يجب أنْ يكون تناول الطعام معاً، وهذا يُعطي بُعداً في العيش المشترك.

في زمنٍ مثل زَمَنِنا، حيث تُضعِف النزعة الاستهلاكيَّة القُدرة على التَمييز بين الاحتياجات الحقيقيَّة والكاذبة، حيث يصبح العلاج بالغذاء في زمنِ الصوم نفسه، هدفًا لِفعلِ الصوم. تعيدنا أفكار آبائنا الشرقيين إلى المُمارسات الشرقيَّة للزهد في مقترحات الصوم الحقيقي. فالقدّيس يوحنا الذهبي الفم يقول “الصوم عديم الفائدة وضار أيضاً لمن لا يعرفون خصائِصِه وشروطه” لذلك لا يمكن أنْ نَضع مفهوم الصوم الكبير على أنه مُوازٍ لأصوام أُخرى في مذاهب أو معتقدات غير مسيحيَّة.
علينا أنْ نتَذكّر كمَسحيين الأساس الأنثروبولوجي وخصوصيَّة الصيام في المسيحيَّة: إنَّ الصوم في المسيحيَّة مرتَبط بالإيمان لأنَّه يؤسَّس على السؤال: “أنتَ مسيحي! بماذا تُغذّي حياتك؟” ويَطرح في الوقت نفسه سؤالاً أكثر قوّة وعمقاً: “ماذا فعلت بأخيك الّذي ليس لديه ما يكفي مِنْ الطعام؟”. هنا الطعام المقصود ليس فقط الجسدي بل الروحي أيضاً. أرجو أنْ يكون معنى الصوم قد أصبحَ أوضح.

بقلم: الاب سامي الريس

عن الاب سامي الريس

شاهد أيضاً

قراءات الجمعة الثانية بعد الميلاد

خروج 15 : 11 – 21 ، ارميا 31 : 13 – 17 من مثلك …