الأحد الرابع من الدنح 2022 “تعال وأنظر”

كيف يلتقي المرء بالمسيح؟ يبدو أنَّ إنجيل اليوم يُجيب على هذا السؤال. نلتقي بالمسيح مِنْ خلال العلاقات المتداخلة الّتي تقودنا إليه في النهاية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة: “في اليوم التالي، أراد يسوع أنْ يذهب إلى الجليل. فوجد فيلبس فقال له اتبعني. كان فيلبس من بيت صيدا من مدينة أندراوس وبطرس”.  

وجد فيلبس نثنائيل وقال له: وجدنا مَن كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء: يسوع الناصري، ابن يوسف. فقال له نثنائيل: “هل مِنَ الناصرة يخرجُ شيءٌ صالح؟” فقال له فيلبس “تعال وأنظر”.  

كل هذه الكلمات هي كلمات تاريخيَّة وهي شهادة عظيمة عن كيفيَّة وصول يسوع إلى حياة التلاميذ مِنْ خلال علاقاتهم. في بداية التجربة المسيحيَّة، لم تكن هناك خبرة أو تجربة صوفيَّة أو استثنائية للقاء المسيح، بل كانت مجرد تجربة إنسانيَّة عميقة. تجربة تجد فيها علاقات حيث تستطيع نعمة الله أنْ تستغلها لدرجة أنْ تجعلها الطريق الرئيسي الذي يسلكه يسوع للوصول إلينا مباشرة.  

يجب أن نقول حقًا أنَّ الصداقة هيَّ السِر الثامن. نحن عادة لا نقوم بمثل هذه الحوارات الّتي حدثت بين فيلبس ونثنائيل، بل تمامًا كما حدث مع نثنائيل الّذي يبدو أنَّه متأثر بتَحيّزاته أو حكمه حول الناصرة أكثر مما تأثر بما يُقال له. حتّى في حوارهِ مع الرَّب يسوع يمكننا أنْ نتَصور حسب تفكيرنا، عدم إستعداده لقبول شخص ناصري يحاوره: سأله نثنائيل: “كيفَ عرفتني؟” أجابه يسوع: ” رأيتك تحت التينة قبلما دعاك فيلبس”. فقال نثنائيل: “أنت يا معلّم ابن الله، أنت ملك إسرائيل”. جواب يسوع كان: “هل آمنتَ لأني قلت لك: رأيتُكَ تحت التينة؟ سترى أعظم من هذا”.  

“البقاء تحت شجرة التين” كان بمثابة الإخلاص لخطة إله إسرائيل. الإسرائيلي الأصيل هو الّذي يعرف كيف يتخلَّص مِنْ أفكاره عندما يدرك أنَّها على خلافٍ مع خطة الله، والإسرائيلي الذي لا يرغب في التَحدُّث ليس صادقًا ولا أميناً. نثنائيل الإسرائيلي المتديّن كان يأمل في المسيا حسب التعاليم الرسميَّة في ذلك الوقت، والّتي بموجبها جاء المسيح من بيت لحم في اليهودية. لا يمكن أنْ يأتي المسيا مِنَ الناصرة إلى الجليل (يوحنا 7: 41-42.52). لهذا السبب، يقاوم نثنائيل قبول يسوع المسيح. لكن اللقاء مع يسوع يساعده على إدراك أنَّ خطة الله ليست دائمًا كما يتخيلها الشخص أو يتَمنّى أن تكون. نثنائيل يعترف بخداعِهِ، ويغيّر رأيه، ويقبل يسوع المسيح.  

لدى يسوع القُدرة على اعتراضنا حتّى في التفاصيل الّتي لا تهم الآخرين ولكنها حاسمة بالنسبة لنا. الشيء الوحيد الّذي يجب أنْ نحتفظ به هو القُدرة على ملاحظتِهِ والتواضع في الترحيب بِما يحدث لنا. لأنَّه لا يُعتَبر أمرًا فارغًا أو بلا معنى، بل أنَّ يسوع يدخل حياتنا وما علينا إلَّا أنْ نقول تلقائيًا نعم لدعوته.  

“الحق الحق أقول لك: سترون السَّماء مفتوحةً وملائكة الله صاعدين نازلين على ابن الإنسان”. بهذه الصورة الموحيَّة الّتي أعطاها يسوع لنثنائيل، يذكرنا إنجيل اليوم برؤساء الملائكة ميخائيل وجبرائيل وروفائيل. لقد بدأ اعتراف نثنائيل للتو. أولئك الّذين هُم مؤمنون سيرون السَّماء مفتوحة والملائكة الّذين يصعدون وينزلون على ابن الإنسان. سيختبر أنَّ يسوع هو الرابط الجديد بين الله وبيننا. إنَّه تحقيق حلم يعقوب (تكوين 28: 10 – 22).  

حيث في مجتمعنا المدرَّب على الخيال والواقع الافتراضي، يرفض الحديث عن الملائكة لأنَّه بالنسبة لهم يعني استحضار شخصيَّات لا علاقة لها بالواقع الحقيقي ولكنها تعيش في ذلك الواقع المعزز بطريقةٍ ربما الخيال. ومع ذلك، إذا امتلكنا مِجهراً روحيَّاً، فسوف نُدرك أنَّهم قريبون مِنّا، فواقعنا الحالي يسكنه أيضًا قوى غير مرئيَّة حتّى الآن، ولكِنَّها تربط بين السَّماء والأرض مثل شبكة غير مرئيَّة.  

قبل قرن من الزمان، إذا كانوا يريدون التحدّث عن wi fi أما كان سيثير بعض الشكوك حول السحر لدى السامعين، لأنَّهم لن يستطيعوا تخيل كيف يمكن للصور، والأصوات، والمحتويات أنْ تنتَقل في الوقت الفعلي مِنْ جزء مِنَ الأرض إلى جزءٍ آخر دون رؤية أي شيء. لكن هذا حقيقي الآن. هكذا كلام يسوع هو شيء مشابه في الحياة الروحيَّة. هناك خط wi fi مِنَ السَّماء إلى الأرض. هناك كلمة الله الّتي تدعونا لسماعِها: “طوبى للذين لم يروني وآمنوا”. قد لا نُصدّق ذلك، لكن هذا لن يخرجنا مِنْ شبكة wi fi هذه الشبكة الّتي قليل ما نستخدمها. على العكس مِنْ ذلك، فإنَّ استخدامها يعني معرفة أنَّنا على اتِّصالٍ دائم بالسماء.  

هذه الشبكة الّتي يقول عنها الرَب يسوع “سترون السماء مفتوحةً وملائكة الله صاعدين نازلين” مصنوعة مِنَ الملائكة ميخائيل وجبرائيل ورفائيل لها ثلاث “ميّزات” غير عاديَّة لشبكة wi fi. ميخائيل هو مَنْ يُدافع؛ ميخائيل ساعدَ النبي دانيال في كفاحِه وصعوباته (دانيال 10: 13، 2121: 1). وفي رسالة يهوذا نقرأ أنَّ ميخائيل خاصم الشيطان وجادله في مسألة جسد موسى (يهوذا 1: 9). كان ميخائيل هو الّذي تغلَّب على الشيطان، مما جعله يسقط مِنَ السَّماء وألقاه في الجحيم (رؤيا 12: 7). اسمه يعني: “مَنْ مثل الله!”. وجبرائيل هو الّذي يشرح معنى الرؤى للنبي دانيال (تثنية 8: 16؛ 9: 21). هو نفس الملاك الذي أرسله الله إلى زكريا (لوقا 1: 19) وإلى مريم العذراء (لوقا 1: 26). اسمه يعني “الله قوي”. وروفائيل هو الّذي يُشفي. ظهر روفائيل في كتاب طوبيا. يرافق طوبيا، ابن طوبيت وحنّة، طوال الرحلة ويحميه مِنْ كل الأخطار. ساعد طوبيا على تحرير سارة مِنَ الروح الشرير وشفى طوبيت الأب مِنَ العمى. اسمه يعني “الله يشفي”.  

بالتالي، أعطانا رؤساء الملائكة الثلاثة ثلاثة أشياء يحتاجها الجميع. أول شيء هو معرفة أنَّنا لسنا وحدنا في القتال، ولكن هناك مَنْ يقاتل معنا. الأمر الثاني هو تلقي إعلان أكبر مِنْ منطقِنا وحساباتِنا، إعلان، مثل حدث غير مُتوقَّع، يغير حياتنا. والثالث هو معرفة أنَّنا لا نَمُر أبداً بأحداث تاريخنا سالمة، وبالتالي فإنَّنا بحاجة إلى الشفاء.  

إنجيل اليوم هو إنجيل الدعوة الحتميَّة التي تغير حياة الإنسان بشكل جذري والّتي تأتي من فَمِ المسيح. فالقصَّة تضع المحاور المحظوظ، وهو فيلبس، الّذي لديه ميّزة لقاء الرَّب في طريقه. وحده لديه هذه القوّة ليأمر أو بالأحرى أنْ يعطي بهذه الطريقة لأنَّه ابن الله؛ يدعو لأنَّه يحب بِحُبٍّ فائق الوصف.  

عندئذٍ تصبح الاستجابة للدعوة شهادة للآخرين: فالحُب الإلهي موجودٌ دائمًا. يخبر فيلبس نثنائيل عن اكتشافه للشخص الّذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء. إيمان ليس كامل ويقابله أيمانٌ أكثر سلبي مِنْ نثنائيل: “هل يأتي شيء صالح من الناصرة؟”. لكن بالرغم مِنْ أنَّ لِكِلَيهما رؤية إنسانيَّة بَحتة، شكوك، قد تبدو صحيحة، تُبدِّد هذه الرؤية فقط من خلال اختبار الله، وهذا ما يدعو إليه فيلبس عندما يقول: “تعال وأنظر”. إنَّها الدعوة الّتي يمكن أنْ نوَّجِهُها إلى مُحاورينا، الّذين لا يزالون يشكّون في أُمور الإيمان ويقولون إنَّها مُجرَّد رؤية عقلانيَّة خياليَّة لحقائق الله. كلمة “تعال وأنظر” هيَّ دعوة لمقابلة الرَّب، والإقتراب منه بأمانة حقيقيَّة وستكون كذلك، عندما ستغمرنا نعمته ونستنير بروحه.  

من هنا نستطيع أن نعود ونقرأ كلمات البابا فرنسيس في تعليقه على هذا النص قائلاً: “الرب يجعلنا دائمًا نعود إلى اللقاء الأول، إلى اللحظة الأُولى الّتي نظر فيها إلينا، وتحدَّث إلينا وجعلنا نتبعه. هذه نعمة نطلبها مِنَ الرَّب، لأنَّه في الحياة سيكون لدينا دائمًا إغراءات تبعدنا عن الشيء الّذي يجب أنْ نراه مِنَ السَّماء. فنحن أنفُسنا لأنَّنا نرى شيئًا آخر نقول: “لكن هذا سيكون جيدًا، لكن هذه الفكرة جيدة …”. يكمل البابا ويقول: (…) نعمة العودة دائمًا إلى الدعوة الأُولى، إلى اللحظة الأُولى: (…) لا تُنسى، ولا أنسى قصتي، عندما نظر إليّ يسوع بحب وقال لي: “هذا هو طريقك”.  

إستنار نثنائيل بالمسيح وإنتقل مِنَ الشَّك إلى الإيمان الكامل والمعلن: “يا معلّم، أنت ابن الله، أنت ملك إسرائيل!”. تتجه أفكارنا اليوم إلى عوائلنا الّتي دعاها المسيح إلى تباعته بشكل خاص: كم مِنّ الشكوك، وكم هو التردُّد، وكم هم الّذين يرفضون منها هناك؟ لقد قال يسوع وما زال يكرر لها: “لَيْسَ أَنْتُمُ اخْتَرْتُمُونِي بَلْ أَنَا اخْتَرْتُكُمْ، وَأَقَمْتُكُمْ لِتَذْهَبُوا وَتَأْتُوا بِثَمَرٍ، وَيَدُومَ ثَمَرُكُمْ، لِكَيْ يُعْطِيَكُمُ الآبُ كُلَّ مَا طَلَبْتُمْ بِاسْمِي” (يوحنا 15: 16).  

بقلم: الاب الدكتور سامي الريس

عن الاب سامي الريس

شاهد أيضاً

قراءات الجمعة الثانية بعد الميلاد

خروج 15 : 11 – 21 ، ارميا 31 : 13 – 17 من مثلك …