الأحد الثالث من الصوم …. البحث عن المراكز المتميّزة

إنجيل اليوم يشبه حالة عوائلنا، حالة علاقاتنا، صداقاتنا عملنا، …  ويجب أنْ نشرَحَهُ بِطريقةٍ مُبسّطة ومِنْ واقعِنا الحقيقي. فهناك عيوب في حياتِنا علينا أنْ نجد الحلول مِنْ جواب يسوع نفسه. إنجيل اليوم يَصِف العَيب الّذي يُقوّض حُب الأُسرة ويمكن أنْ يقضي عليها؛ لكن إذا سمَحَت أنْ يتَدخَّل يسوع فسَتَجد العلاج الصحيح.  

العَيب هوَ: الرغبة في التَمَيُّز، أنْ نكون الأوّل  

هناك طريقَتان: إمّا أنَّنا نريد أنْ نكون الأوّل ونعمل بِشكلٍ شخصي لنكون هكذا، أو نتَظاهر بالتواضع ونَترُك شخص آخر يَقوم بِجَعلِنا مُتَمَييزين دون أنْ نُظهِر رغبتِنا الداخليَّة في ذلك، مثلما نرى في قصَّة أبني زبدى، اللذان بالتأكيد كانا قد قالا بأنفُسِهِما لأُمِّهِم هذهِ الرغبة، وعندَ حدوث أي مُشكلة لاحِقاً سيَقولان هيَ الّتي طلبت ولسنا نحن! لأنَّهما كانا يعرفان بالفعل الجواب الّذي سيأتي مِنَ المعلّم. فهذه المرأة تُقدّم نفسها ليسوع وتقول له: “مُرْ أنْ يَجلِسَ أبنايَ هذانِ، واحدٌ عن يمينِكَ وواحدٌ عن يَسارِك في ملكوتِكَ” (متى 20: 21).  

نحن نعلَم جيّداً قصّتهما حسبما يرويها القدّيس متى بينما كان يسوع يمشي على طول بحر الجليل ، رأى “أخوين، يعقوب بن زبدي ويوحنا أخوه، اللذان كانا في السفينة مع أبيهِما زَبدي، يُصلِحان الشباك، فدَعاهُما. وعلى الفور تركا القارب وأبيهما وتَبِعاه” (متى 4: 21 – 22).  

استجابة فوريَّة لنداء يسوع، دون تفكير لكن فقط جوابهما لِدعوة المعلّم الجديد هوَ فعل حماس. والقدّيس مرقس يُسمّيهِما بـ “أبني الرَعَد” (مرقس 3: 17).  

إنَّهما يُحبّان سيّدهما كثيراً، لدرجة إنّهما كانا قريبين مِنْ يسوع مع بطرس، في لحظاتٍ خاصَّة، فقد كانوا شهوداً على مَجدِ التَجلّي، وقيامة ابنة يايرس، وفي جثسيماني. وطريق الجلجلة ولو مِنْ بعيد، والموت المأساوي على الصليب سيُغيّر حياتهما بِشكلٍ جذري. في الواقع، سيكون يعقوب أوّل الرُسُل الّذين اتبعوا يسوع حتّى في الموت العنيف، بعد أنْ قتله هيرودس أغابوس بالسيف في أورشليم (راجع أعمال الرسل 12: 2). ربما لهذا السبب، اعتقدت والِدَتهِما أنَّه مِنَ الصواب أنْ يكونا بجانب يسوع في ملكوته.  

نحن البشر نسعى دائمًا إلى هذا؛ نحن بَشر، ونبقى بَشر، بعيوبِنا وصفاتِنا البائسة، لا نفهم أبدًا، حتى عندما يكون إيماننا قويًا، ولا حتى عندما يكون يسوع قريبًا مِنْ قلوبنا، أنَّ دورنا ليس الظهور، بل الخدمة. نَريد أنْ نَظهر، لنكون الأوّل، لنَظهر للآخرين أفضل مِمَّا نحن عليه حقيقة، حتّى في بعض الأحيان لأنفُسِنا فقط، كما لو كنا نَنظر في المرآة ونرى روحنا فقيرة جدًا في الإيمان، مع هذا نبقى ونقول أنا أفضل من الآخرين. في هذا الشكل سنكون بالفعل بعدين عن يسوع، الّذي يظل دائمًا قريبًا مِنّا.  

إنَّ الرغبة في التَفَوّق هيَ رَغبة عارِمة في قلبِ الإنسان، لذلك لا نتَفاجأ عندما نَريد أنْ نكون الأوّل. ولكن يجب أنْ نرى ما إذا كانت هذهِ الرغبة الّتي فينا هيَ بحسبِ الله. إذا كان الأمر كذلك، فيجب علينا تغذيتها؛ وإنْ لم تكن حسب الله فعلينا تدميرها. الشخص الّذي يريد أنْ يكون في مَلكوت السَّماوات عليه أنْ يعرف يجب أنْ يتَغير هوَ وليس المسيح الّذي علّمنا أنْ نخدم لا أنْ نُخدم.  

فما هيَ آثار الرَغبة في التَفوّق  

الرغبة في التَفوّق تُسبِّب التَنافس والانقسام والسخط والغيرة. كُل هذه الأشياء رذائل تنال مِنْ النِعم الّتي وهبها الله للبشر. حتّى في عائلتِنا، هناك موقف الرغبة في التَميّز، والرغبة في الحصول على شيء خاص، وعدم الرغبة في فُقدان شيء حاولنا امتلاكه. وهذا يؤدي إلى الانقسام والتَنافُس والسخط والحَسد والغيرة بين الإخوة، ويقضي على الحُب مِنْ جذوره. إذا لم نُدَمّر هذا العَيب فأنَّنا سنَطرد المسيح مِنْ بيوتِنا ونفقد نِعَمَه. وما علّمتنا الحياة أنَّ كُل مَنْ أولئك الّذين يريدون التَفوّق والّذين يحسِدون الآخرين يتألمون.  

الله هو الّذي يُخصِّص لكُلِ واحد مكانه  

فكرة يسوع هيَ كالتالي: تَمَّ إعداد المقاعد وتوزيعها مِنْ قِبل الله، “لا يحِقُّ لي أن أُعطيه، لأنَّه للّذين هيَّأهُ لهم أبي” (متى 20: 23). الأماكن الّتي أعدها الله ووزعها الله، لا أحد مِنَّا يستطيع أنْ يدَّعي مكانًا لم يُعدَّه الله وأعطاه له؛ علينا أنْ ننتَظر. أعظم الأشخاص الّذين كانت لهُم الأماكن مُهيَّأة مثلاً العذراء مريم، الّتي لم يكن لها مكان مَلكة أو إمتياز، بل مكان ربَّة منزل وزوجة نجار وأم لطفل. الكراسي يوزعها الله وعلينا أنْ نقبل ما يعطينا.  

علينا أنْ نعرف أنَّ الأماكن الأُولى مُرتِبطة بمُعاناة كبيرة. لهذا يقول الرَب يسوع لهُما: “إنَّكُما لا تَعرفان ما تَطلبان. أتقدران أنْ تشربا الكأس الّتي سأشربها؟” (متى 20: 22). بالتأكيد وبسبَب حماسهُما كان الجواب “بنعم”. كُل مَن لديه القوّة على تحمّل المُعاناة لأجلِ المسيح ستكون له القوّة في المقام الأوّل. لكن أولئك الّذين لا يملكون القوّة على المعاناة لن يكونوا أبدًا في الأماكن الأُولى.  

ترتبط الأماكن الأُولى أيضًا بفكرة خدمة أكبر ومسؤوليّة أكبر.  

كي يُنهي الرَب يسوع فكرة الحَسَد بين تلاميذه يهب التَعليم فيقول: “مَن أراد أن يكونَ عظيماً فليَكُن لكم خادماً. ومَن أرادَ أن يكون الأول فيكم فليَكُن لكم عبداً: هكذا ابن الإنسان جاءَ لا ليُخدَم، بل ليخدُمْ ويفدي بحياته كثيراً منهم” (متى 20: 26 – 28).  

الهِبات الّتي يمنحنا إيّاها الله، حتَى نتمكّن مِنْ خدمة الآخرين. مع هِبة الكلمة أنا لا أخدم نفسي بل أنتَ. بالنسبة لي، هذه الهِبة هيَ مسؤوليَّة، لأنَّني إذا لم أقول ما يريده الرَب يسوع والكنيسة فسوف يتَعيَّن علي تقديم حسابي لله.  

لنقبل ما يعطينا الله. ولا نَبحَث عن الأماكن الأُولى أو الأماكن المُميَّزة؛ إنَّها مناصب المسؤوليَّة الَّتي يجب أنْ تخضع للمُساءلة الصارمة أمام الله. أعطِ الآخرين ما عندك، لأنَّها عطايا مِنَ الله؛ أعطاها لكَ لتُعطيها للآخرين. تَبَرَّع بِفَرح بما لديك بروح نكران الذات. قال القدّيس يوحنا الذهبي الفم: “عاش القدّيس يعقوب لفترة قصيرة، لأنَّه منذ البداية تأثر بحماسٍ شديد: احتَقر كُل الأشياء البَشريَّة وصعد إلى ذروة لا توصف حتّى مات على الفور”.  

قال البابا فرنسيس في تعليقه على هذا النَص: “إنَّ طريقة الخدمة هيَّ أفضل ترياق لمرض البَحث عن الأماكن الأُولى؛ إنَّه دواء للمُتَسلّقين، في البَحث عن الأماكن الأُولى، الّذي يصيب العديد مِن السياقات البَشريّة حتّى عند المسيحيين، شعب الله، وحتّى في التسلسل الهرمي الكنسي. لذلك، بصفتِنا تلاميذ للمسيح، دعونا نُرحب بهذا الإنجيل باعتباره دعوة إلى الاهتداء، والشهادة بشجاعة وسخاء لكنيسة تنحني عند أقدام الصِّغار، لتَخدمهم بمَحبّة وبساطة “.  

بقلم: الاب الدكتور سامي الريس

عن الاب سامي الريس

شاهد أيضاً

مواهب الروح القدس

هو روح الله الأقنوم الثالث في الثالوث الاقدس وقد ذكر هذا التعبير ثلاث مرات فقط …