“أيُّها الجيلُ غيرُ المُؤمنِ الفاسِد! إلى متى أبقى معكُم؟” (متى 17: 17). حالما نزل يسوع مِنَ الجبل، حيث تَجلّى في النورِ الإلهي بكُلِّ بهائِهِ (متى 17: 1-9)، كان عليه أنْ يواجه الأزمة الحقيقيَّة للبشرية: مِنْ جهة مُعاناة الأب الّذي يتوسَّل لشفاءِ ابنِهِ؛ ومِنْ ناحية أُخرى عَجز التلاميذ. فأمام الحَشد الّذي يُراقبُ بِصمتٍ الحدث النهائي ماذا سيحدث؟ في اللحظةِ الّتي ينظر إليه الجميع وينتظر، يسقط رجلٌ على ركبَتيه مُتضرّعاً: “إرحم ابني يا سيّدي” (17: 15). هذا الرجل هوَ نموذج لإنسانٍ رُبَّما يشعر بتَغير في حياتِهِ، يبدأ في مسيرة الإيمان، لكن ليس كل شخص مِنَ الحشود الّتي كانت حول يسوع لديه إيمان، ولا يؤمن الجميع بأنَّه هوَ الّذي أرسله الله، ولهذا السبب، قبل التَدخُّل وشفاء الأبن، يستنكر يسوع عدم الإيمان، الّذي يدور في أفكارِ الناس. كلماته لها طعم المرارة، وكأنّها توبيخ ولكن يمكِنُنا أيضًا قراءة كلمات الرب يسوع ككلمات دعوة للبدءِ مِنْ جديد في الإيمان المتواضع والصادق لأولئك الّذين يعتبرونه المسيح المنتظر. هذا ما يأتي في جواب يسوع في نهاية القِصَّة، عندما يذهب الجميع بعيدًا، يسأله التلاميذ لماذا لم يتمكنوا من إجراء الشفاء؟ فيجيب: “لقلةِ إيمانِكم” (17: 20).
طفل يُعاني! العالم قرية صغيرة وكُل حقبة فيه نجد نفس القِصَّة. فهناك أطفال يعانون، وآباء وأُمهات مَعهم وأكثر مِنْهم. بالطبع ، في ذلك الوقت، كان سبب كُل مرض يُنسَب إلى الشيطان، خاصةً مرض غريب مثل الصرع. اليوم، إذا تحدَّثنا عن إنسان به شياطين، فسَوفَ يُسمونَنا مُتعصّبين وأغبياء. بالتأكيد لا يُمكِنُنا أنْ نَنسب أسباب المرض إلى الشيطان الّذي لا سُلطان له عليه، لكن لا يمكننا استبعاد أنَّه سيضع يده علينا عندما نكون في حالةِ مُعاناة مع تَذمُّر ضد الله وعدم الوثوق بالله.
لذا بالنسبة للشباب المرضى الّذين يُعانون مِنْ آلام في الروح، مِنْ الفراغات الوجوديَّة، مِنَ الأمراض النفسيَّة الجسديَّة، أنا مُقتنع بأنَّ هذهِ أرض خصبة لِحشائِش الشيطان الّذي يحاول القول لمثل هؤلاء الناس مثل قال المُزمّر:” يُقال لي كُلَّ يومٍ: “أَيْنَ إِلهُكَ؟”” (مزمور 42: 4). العلاقة بين المرض والشباب والشيطان والإيمان مُعقَّدة للغاية ودقيقة لدرجةِ أنَّني لن أُغلق أي باب أمام الاحتمالات غير العلميَّة البَحتة. علاوة على ذلك، حقيقة أنَّ الصّبي في الإنجيل كان يُلقي بنَفسِهِ في النار والماء يقودنا إلى الاعتقاد بأنَّ ألم المرض كان له تداعيات عنيفة في نفسيَّة الصبي مما أدى بِهِ إلى إيذاء نفسِهِ.
ومهما كان فعل يسوع في اخراجِ الشيطان جميل. وكيف فعل ذلك؟ لكِنَّهُ انتهَرَهُ زَجَرَهُ بِعُنف وأغضبه، أو بالأحرى وبَّخَه كما نفعل في بعضِ الأحيان. وكأنَّه يقول: ابتعد عن هذا الألم! وهنا بدأ شفاء الصبي.
لا يستطيع التلاميذ التَغلُّب على مرضِ الصَرع. إنَّهم يحاولون عبثًا مواصلة مُهمَّة يسوع: لا يمكِنهم ذلك. إنَّ عدم قُدرَة التلاميذ هيَ سلسلة مُتَّصِلة في هذهِ القِصّة: لم يتمكَّنوا مِنْ ذلك، “لماذا عَجِزْنا نَحنُ عَنْ أنْ نَطرُدَهُ؟”، إنَّها خَيبَة أمل التلاميذ أنفُسهم. كيف لم تتَحقَّق إرادة الآب الّتي أوكلها إلينا يسوع أنْ نكون جماعة يهزمون الشر؟ كيف لم نعد نحن تلاميذه قادرين على عمل مشيئة الآب في طردِ الشَر؟ يبدو أنَّ قلَّة الإيمان أو عدم الإيمان هوَ سبَب هذا الضعف البَشري. نحن لا نُصدّق هذا، نحن عاجِزون. لا نؤمن بِهِ لهذا لا نستطيع مواجه الشَر ومُحارَبتِه. نحن نفضِّل أحياناً إخفاء الإيمان أو نكرانه.
لا شيء مستحيل أمام الإيمان، ليس مِنْ حيث النتائج ولكن قبل كُل شيء بالنسبة لحركةِ الحياة الّتي يَخلقها. أعتقد أنَّه مِنَ المُهم بالنسبة لنا أنْ ننتَبه إلى أنَّ إيماننا القليل في مواجهةِ الشَر لا يَرتد إلى اللا إيمان الّذي لا يستطيع القيام بأي شيء. في مواجهة بعض الأُمور الحياتيَّة الغير صحيحة، وترك الشَر ينمو، يصبح إيماننا القليل سببًا لعدم القيام بأي شيء لأنَّنا لا نُريد فعل شيء في مواجهة مثل هذه المشكلة الكبيرة، بالتالي بسَبَبِ ترك أنفُسنا نُصبح غير مؤمنين أو قليلي الإيمان؟ إنَّ إيماننا الصغير مَدعو إلى أن ينمو ويصبح إيمانًا أكبر، لأنَّ كُل شيء مُمكن في الإيمان، ليس لأنَّه يؤتي ثماره ولكن لأنَّه يحيا ويمنح الحياة.
الإيمان يعني طرق باب الله، وتسليم آلامنا إليه، والثِقة في القوّة الّتي تأتي مِنْ مَحبَّتِهِ. يطلب يسوع الإيمان لأنَّه يعلم أنَّ هذا هوَ الشرط الوحيد ليس فقط للحصول على المعجزة ولكن للتَغلُّب على اليأس الّذي غالبًا ما يَتربَّص في ثنايا القلب وينتهي به الأمر بِشَلِّ أفضل النوايا. الإيمان ليس أحد مكونات الحياة ولكِنَّه الصَمغ الّذي يربط ويقوي جميع العناصر الأُخرى. لا يكفي أنْ يقدِّم المرء سلَّة الألم إلى الله أثناء انتظاره ليؤدي المعجزة المنتظرة. أولئك الّذين يؤمنون مُلتزمون بالتعاون معه وأنْ يصبحوا أبطال قِصَّة جديدة. لأنَّنا نَبدأ منه، بالنور والقوَّة اللذين يأتيان منه، والإيمان يعني التصريح بصوتٍ عالٍ: كُل شيء مُمكن معك يا رب. الإيمان لا يجعلنا نَبقى في الخلف ولكِنَّه يمنحنا القوّة لمواجهة الحياة بهذا التَصميم الّذي لا يمكن أنْ يمنحه إلا الحُب.
الإيمان ليس مسألة صيغة سحريَّة عقلانيَّة أو حتّى عاطفيَّة، إنّها مسألة حركة الشخص بأكملِهِ الّذي يهتز عند التفكير في بدءِ مُغامرة حيويَّة جديدة مع الله. إذا لم أكن مقتنعًا بشيء واحد، فلن أتمكَّن مِنْ تحقيق ذلك الشيء. إذا كنت لا أؤمن بمشروع ما، فإنَّ هذا المشروع قد ولد بالفعل بضيقٍ في التنفس ولن يكون ناجحًا إذا لم يقتنع قلبي بِمَسيرة الطريق. بعدَ كُلِّ شيء ، الإيمان ليس إلاَّ تحقيق المستحيل.
طاعة الآب تعني الإصغاء إلى ابنه الحبيب. الاستماع إليه هوَ الطريقة الرئيسيَّة للتَغلُّب على الشَر. في الواقع، تولِدُ كلمتُهَ فينا هويَّتِنا، أي كوننا أبناء الله. الإيمان هو قبول زرع الكلمة الّتي سقطت على الأرض والّتي تموت وتُثمر. الثمر هوَ أنْ يكون أبناء الله قادرون، لأنَّنا مؤمنون، نستطيع التَغلُّب على الشَرِّ. أكبر شَر هو عدم الاعتراف بأنفُسِنا كأبناء وعدم التَعرّف على الله الآب. ويترتب على ذلك أنَّ الآخرين ليسوا إخوة بل غُرباء، أعداء وأشخاص مِنَ الدرجة الثانيَّة.
فقط أولئك الّذين لديهم إيمان يتَغلَّبون على الشَر لأنَّهم يجعلون الغائب (الله) حاضرًا. إنَّ قول هذا ليس له نيَّة الإقصاء ولكِنَّه يريد إشراك الكثيرين الّذين لا نحكم عليهم كأشخاص مؤمنين، ولكن مِنْ قِبل الآب ورَب الحياة، مِنْ خلالِ الحياة نفسها. إنَّ إدراك إيماننا الصغير ليس حكمًا، لكن الواقعيَّة هيَ الّتي تحفزنا على النمو في إيماننا بأنَّه مِنَ الممكن مواجهة الشَر والتغلُّب عليه.
مِنَ المهم أنْ نَعلم أنَّ يسوع لا يطلب مِنْ تلاميذهِ ومنّا إيمانًا بطوليَّاً، ولكِنَّه يخبرنا بِبَساطة: “لو كانَ لكُم إيمانٌ بِمقدارِ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، لقُلتُم لهذا الجبَل: إنتَقِلْ مِنْ هُنا إلى هُناكَ فَينتَقِلُ”. ومع ذلك، يجب أنْ نتَذكَّر أنَّ عطايا الله، والإيمان هوَ بالتأكيد مِنْ أهمِها، أنَّه محفوظ في الأواني الفخاريَّة ويُشبه مَصابيح العذارى اللائي ينتَظِرنَ وصول العريس في منتصف الليل: يجب أنْ نتَغذى بشكلٍ صحيح ويجب علينا بحذر دائمًا الاحتفاظ بِمَخزون مِنْ الزيت. وهذا يعني بِشكلٍ مَلموس: مُمارَسة الحياة المسيحيَّة، والمشاركة المتكرِّرة في الأسرار، والأعمال الصالحة، والمحبَّة الأخويَّة. لنتَذكَّر دائمًا أُولى الوصايا: “تحب الرَب إلهك مِنْ كُلِّ قلبِك ومِنْ كُلِّ نفسك ومِنْ كُلِّ قوّتِك”. وهكذا فإنَّ حبة الإيمان هذه سوف تكون قادرة أيضًا على أنْ تنبُت في كُلٍّ مِنا، حقّاً، تنمو وتؤتي ثمارها.
لنَطلب الرحمة مِنَ الرَب، ونؤمن أنه فينا يستطيع هزيمة الشَر. الإيمان يسمح لنا بالاستماع إلى يسوع وجعله الكلمة، البذر الّذي ينبت فينا. لنَطلب اليوم نعمة الانتقال مِنْ إيماننا الصغير إلى إيمان غير مَشروط مِنْ خلالِ عدم الانصياع لِتَجربة عدم الإيمان، والاعتقاد بأنَّنا مِنْ الممكن أنْ نعيش في الشر، بل مِنْ خلالِ محاربة الشّر وهزيمتِهِ، اليوم، وليس غدًا.
بقلم: الاب الدكتور سامي الريس