الأحد الثالث من الصليب 2022 … يسوع والكنعانية

يقدم لنا إنجيل اليوم قصة غير عادية. كل لحظة فيها مدهشة إذا عرفنا كيف نستوعب قوتها. يبدأ السرد بنموذج مؤثر للصلاة: امرأة تسلم نفسها ليسوع دون سابق إنذار، عنوان تسليم الذات يمكن أنْ نُسَمّيه معاناتها. إنه تضرّع صادق يأتي من الألم والأمل. هذه المرأة هي كنعانية – أي أجنبية.  

في هذا اللقاء وفي جواب يسوع المذهل يمكننا أن نرى ثلاث مُفاجآت. (المفاجأة الأولى): أولاً صمت شديد: “ولا حتى كلمة واحدة”. صرامة. لم يكن أبدًا يسوع بهذه الصرامة وهو يرى شخص يتألم. جرحها بِكلمَةِ “الكِلاب” الّتي استَخدمها اليهود تجاه الكنعانيين. يبدو أن يسوع من خلال كلماته هذه وكأنَّه يقبل الإنغلاق المزعج لمعاصريه. فهل يقوم يسوع بفعل عكس ما أراده الله من جميع الشعوب كما جاء في إشعيا: “وَأَبْنَاءُ الْغَرِيبِ الَّذِينَ يَقْتَرِنُونَ بِالرَّبِّ لِيَخْدِمُوهُ وَلِيُحِبُّوا اسْمَ الرَّبِّ لِيَكُونُوا لَهُ عَبِيدًا، كُلُّ الَّذِينَ يَحْفَظُونَ السَّبْتَ لِئَلاَّ يُنَجِّسُوهُ، وَيَتَمَسَّكُونَ بِعَهْدِي، آتِي بِهِمْ إِلَى جَبَلِ قُدْسِي، وَأُفَرِّحُهُمْ فِي بَيْتِ صَلاَتِي، وَتَكُونُ مُحْرَقَاتُهُمْ وَذَبَائِحُهُمْ مَقْبُولَةً عَلَى مَذْبَحِي، لأَنَّ بَيْتِي بَيْتَ الصَّلاَةِ يُدْعَى لِكُلِّ الشُّعُوبِ” (إشعيا 56: 6-7).  

إذن لماذا فعل يسوع هذا؟ من الضروري التفكير في تربية الله، والاهتمام دائمًا بأزمنة الإنسان. لا يشترك يسوع في عقلية زمانه الضيقة والمغلقة، لكنه صبور. يقبل أن ينطلق من العقلية السائدة، لهذا عندما يرسل الاثني عشر في رسالتهم الأولى، يوصيهم: “لا تقصدوا أرضاً وثنيَّةً …، بل إذهبوا إلى الخِراف الضَّالَّةِ من بني إسرائيل” (متى 10: 5-6). أي أنه لا يفرض على الزمن شكلاً مصطنعاً من مواقف حاسمة، إنه يريد الوصول إلى الغير مؤمنين بطريقة مختلفة وأكثر إنسانية، وهي البدء من المواقف الملموسة التي تساعد على فهم الأسباب العميقة للعقلية الجديدة التي يتطلبها بالنسبة للمؤمنين. إنه لا يفرض تعاليمه على مَحبَّة الله لجميع البشر من الخارج (التي لم يتمكن معاصروه من فهمها)، لكنه يحاول من خلال فعل التعاطف أن يستوعب الشعب الإسرائيلي (كما في هذه القصة) ما هو عظيم حتى في الوثنيين، في الغرباء، الذين يعتبرون مستبعدين من شعب الله. عقلية التي غالبًا ما كانت من الفريسيين لتجعلنا نحن أيضاً نفهم لماذا يحبهم الله ولماذا يجب علينا أيضًا أن نحبهم. يوجد الآن معيار جديد لفهم عظمة الإنسان: عدم الانتماء إلى عرق أو جماعة دينية، بل الإيمان.  

وهنا يبدو الرسل أكثر انفتاحًا تقريبًا على النساء. لكن يسوع لا يريد أن يسمعها فقط بسبب أهميتها. ربما بعد أن أدرك يسوع صفات هذه المرأة وتضرّعها الصادق، ينتظر أن يزدهر إيمانها، لتحفيز مشاعر الإيمان وجعل الجميع يفهم درسًا عظيمًا من الإنجيل. إنه يريد أن يقود المرأة من طلب معجزة إلى إدراك شُعور الدخول في العائلة العظيمة من البشر المحبوبين من الله الدخول في شعب الله.  

هذا ما يحدث في المرأة (إنها المفاجأة الثانية). إنها لا تتفاعل مع الاستياء والحساسية (الكبرياء دائمًا فعل غبي)، ولكن بتواضع يكشف في المرأة عن معرفة فريدة بالرجل الذي أمامها. إنها تمتلك الشيء الإيجابي الوحيد الذي يمكن أن تقرأه في إجابة يسوع وتحولها لمصلحتها: “نعم، يا سيّدي! حتى الكلاب تأكُلُ من الفُتاتِ الذي يتساقط عن موائد أصحابها”. هذه هي النقطة القصوى التي تصل إليها المرأة. هذه القصّة تجد صداها أيضاً في سفر الملوك الأول الفصل 17.  

من بعض النواحي، حتى تلك المرأة التي تقترب من يسوع لا تبدو غريبة؛ في الواقع، إنها تتصرف جزئيًا مثل يهودية.  في الواقع ، يدعى يسوع “ابن داود”، وهو اللقب الكريستولوجي الذي يفتتح به متى إنجيله حين يتحدّث عن “نسب يسوع المسيح ابن داود، ابن إبراهيم” (متى 1:1)، وإلى جانب كونها التسمية التي أعطتها له الجموع، فهذه هي التسمية التي يطلق عليه الأعمى وتُستخدم دائمًا فيما يتعلق بالمعجزات أو طرد الأرواح الشريرة (أنظر متى 9: 27-34). هذه الكنعانية، غير يهودية، هي الوحيدة في إنجيل متى تستخدم هذا اللقب ليسوع، لكننا لا نرى كيف يمكنها فهم معناها، ما لم نقرأ الإنجيل بشكل صحيح، كما أود الإشارة إلى أنَّ هذه القصة تُعيدنا مرة أخرى إلى أن نرى في هذه المرأة نذيرة للوثنيين الذين سيؤمنون بيسوع – الطريقة التي بها نساء أخريات كانت بالفعل في أنساب يسوع، بما في ذلك الكنعانيات تامار وراحاب (راجع متى 1: 2-17).  

المفاجأة الثالثة: إقتناع يسوع، أو من الأفضل القول يسوع يتحرر من عقلية اليهود. إنه يسمح لنفسه أن يتغير، من قبل هذه المرأة الوثنية. بفضلها، أظهر يسوع نفسه على استعداد للتنصل من خطة عمله المؤقتة، لجعل الناس يفهمون قوة الإيمان وعالمية محبة الله. يتضح من الإنجيل كله أن حدود رسالة يسوع كانت مقدرًا لها أن تختفي عندما حان الوقت. بالنسبة لإيمان هذه المرأة، يتم تقصير أوقات الانتظار ويتم اتخاذ خطوة إلى الأمام في الكشف عن خطة الله.  

وهكذا يبني يسوع تعاليمه: ليس من خلال الصياغات المجردة، ولكن إظهار ما هو قريب من حداثة الإنجيل في الإنسان، مما يجعل شرارات الحقيقة التي يصادفها في جميع البشر تنضج، ويقبل أنه حتى آخرهم يعلمون ما هو أعظم في العالم. يسوع هو الإنسان الحقيقي الذي يساعدنا على اكتشاف الحقيقة العظمى: إن ملكوت الله ليس أيديولوجيا مجردة (مجموع المبادئ النظرية)، ولكنه واقع حي، بذرة تنمو، بالتأكيد لخصوبتها، يجب أيضًا أن تتغذى من الأرض التي يُلقى بها ويموت، أي من البيئة البشرية التي ترحب بها (متى 13: 1-23).  

إنه اكتشاف الإنجيل الحي، اكتشاف صعب ودقيق ولكنه مثير: نصبح أبطال نمو الخميرة الإنجيلية. حقيقة ملكوت الله، ليست أبدًا ملكية نهائية (إمتلاك) ولا حالة مطمئنة لا صعوبة فيها. يَتِمُّ تَحقيق اكتشاف الإنجيل بإستمرار في لقاء حقيقي مع الآخرين.  

بعد أن حقق يسوع هذه المعجزة ، عاد – بحسب متى – إلى أرضه، وبذلك أنهى القوسين خارج أرض إسرائيل.  وهذا يعني أن يسوع كان متأكّداً أنَّ، حتى في تلك المنطقة الوثنية، يمكنه أن يجد إيماناً رائعاً وعظيماً أكثر من إيمان أولئك الذين يعيشون في أرضه، وأن ملكوت الله يفوق كل الحدود.  

أتمنى أن تساعدنا صفحة الإنجيل على استيعاب هذا الإعلان العظيم بفرح: يمكن للجميع، حتى أولئك البعيدين، أن يصبحوا أداة لنمو ملكوت الله: فالمرأة الكنعانية لا تتأذى من كلام يسوع لكنها تعرف كيف تدرك حتى أدنى إيجابيات كلامه من خلال وجه اللامبالاة والرفض: إنّها تتعرّض لتجربة عيش التواضع ورفض الكبرياء أمام قوة الله.  

فهل نحن قادرون على استيعاب الإعلان العظيم بفرح أن كل فرد يمكن أن يصبح أداة لنمو ملكوت الله؟ من وجهة نظر أخرى ما هو نوع سجودنا الحقيقي في عالم اليوم الذي يرفض كلمة الله، هل هو مثل سجود الكنعانية أم لا؟  

بقلم: الاب الدكتور سامي الريس

عن الاب سامي الريس

شاهد أيضاً

قراءات الجمعة الثانية بعد الميلاد

خروج 15 : 11 – 21 ، ارميا 31 : 13 – 17 من مثلك …