الأحد الرابع من الصليب 2022 … الحاجة للتغيير

أراد التلاميذ أنْ يعرفوا مَنْ سيكون الأعظم في مَلكوت السَّماوات. لِنَنتبه إلى ما هوَ الافتراض الّذي كان وراء هذا السؤال الخاص بِهِم؟ السؤال “مَنْ هوَ الأعظَمُ في الملكوت”، اعتبروا أنفُسهم أنَّهم سيكونون جزءًا مِنَ الملكوت، أي أنَّهم سيذهبون إلى السَّماء. وتظهر حقيقة أنَّهم جادلوا مَنْ هوَ الأعظم أنَّهم لم يهتمّوا بِعدمِ قُدرتِهم على دخول الملكوت في جوابِ يسوع يوضِّح غرض افتراضهم.   

في البداية علينا أنْ نقرأ بعناية ما قاله يسوع للتلاميذ الّذين هُم على يَقين مِنْ أنَّهم سيدخلون الملكوت: “الحقَّ أقولُ لكُم: إنْ كُنتُم لا تَتَغيَّرونَ وتَصيرونَ مِثلَ الأطفالِ، فلن تَدخُلوا مَلكوتَ السَّماوات”. بهذه الكلمات يُعلن الرَب يسوع أنَّ التلاميذ، في وضعِهم الحالي، ليس فقط أنَّهم لنْ يكون لهُم مكانة مُهمَّة في مَلكوت السَّماوات، لكِنَّهم لنْ يتَمكَّنوا حتّى مِنْ دخولِهِ! لذا يجب عليهم إجراء تغيير جذري في القلب مِنَ أجل دخول الملكوت.   

كان قلب التلاميذ عكس ما هوَ مطلوب لدخول الملكوت، وكان عليهم أنْ يتَغيَّروا ويَصيروا مثل الأطفال قبل أنْ يتمكَّنوا مِنْ دخول الملكوت.   

علينا أنْ نُركّز على الكلمات “تتَغيروا وتَصيروا”. في العهد الجديد، غالبًا ما تُترجم الكلمة اليونانيَّة، في هذا المقطع إلى “تغيير”، بينما يمكن أنْ تكون الترجمة إهتداء وعودة، يجب أنْ يكون الفعل انعكاسي يعني إنقلاب 180 درجة. ثُمَّ، في سياقِ زمن هذا السؤال، كان التلاميذ يسيرون في اتجاهِ مُحاولة الأفتخار بِمُعلِّمِهم أي السير في طريق التَكبُّر، فيُنبِّههم يسوع أنَّه يجب عليهم تغيير الاتجاه، والعيش في التواضع.   

كلمة “أنْ تَصيروا” تعني الحصول على خاصيَّة أو دور مُختلف عن ما كنتُم عليه، أي تتَغيَّروا مِنْ حالٍ غلى حال”. لذا، فالأمر يتَعلَّق بالشخص وليس فقط بما يفعله. مِنْ هنا، أعلن يسوع أنَّه كان على التلاميذ أنْ يُغيّروا اتجاههم، وأنْ يصيروا مثل الأطفال، لكي يدخلوا الملكوت. إذا كان هذا التغيير يخدم التلاميذ، فهو يخدمنا أيضًا.   

لكن ما هوَ الشعور بأنْ يَصير المرء مثل الأطفال؟ بعد أنْ فهمنا الحاجة إلى تغيير جذري، وتغيير في الاتجاه، نريد أنْ نفهم بشكل أفضل معنى كلمات يسوع عندما أخبر التلاميذ أنَّه يجب أنْ يَصيروا مثل الأطفال لدخولِ الملكوت. ماذا يعني أنَّ “عليكم أنْ تصيروا مثل الأطفال”؟   

بادئ ذي بدء، الكلمة التي تُرجمت “طفل” هيَ مِنْ الكلمة اليونانيَّة ” payion”، تُشير إلى طفل، مِنَ المحتَمل أنَّ الطفل الّذي دعاه يسوع إليه كان بين سنة إلى خمس سنوات، والصفات التي قصدها يسوع في الأطفال هيَ تلك الصفات الّتي يمتلكها الأطفال في هذا العُمر الصغير. ربما نقول بأنَّ، وهذا ما نَسمَعه مِنَ الكثير مِنْ الآباء والأُمهات أنَّ صفات طفل هذا العصر، ليست صفات عصرنا، بالتأكيد هيَ ليست نفس الصفات الّتي يجب أنْ يتَمتَّع بها أطفال عصر يسوع، فما هيَ الصفات الّتي يجب أنْ نمتلكها، لكي ندخل ملكوت السَّماوات؟   

يساعدنا السياق في فهم مَعنى كلمات يسوع، فقد قال يسوع أنَّه يجب على التلاميذ تغيير اتجاههم، وأن يصيروا مثل الأطفال. لذلك، يجب أنْ نلاحظ تلك الصفات الّتي يمتلكها الأطفال في هذا العصر.    

ما هيَ الأخطاء الّتي اظهرها التلاميذ؟ كان التلاميذ يفكِّرون كيف يمكن أنْ يُصبحوا الأعظم والأكثر أهميَّة. كانوا يهدفون إلى أنْ يراهم الآخرون بِشكلٍ جيّد. أرادوا القوّة. بعبارةٍ أُخرى، أرادوا أنْ يتَمجَّدوا. وهذا ما نَفعله نحن أيضاً في الكثير مِنْ الأحيان!   

مع وضع هذا في الاعتبار، ما هيَ الصفات المُعاكِسة الّتي نجدها في الأطفال الصِغار؟ الأطفال الصغار، عندما يكونون في حضور بالِغين يعرفون كيف يتم احترامهم، لا يعرفون حتّى ماذا يعني أنْ تكون كبيرًا. لا يريدون السَيطرة على الآخرين في الأُسرة. هُم الّذين يخضعون لتوجيه الوالدين ورعايتهم في كُلِّ شيء. ومع ذلك، فهُم سُعداء بدورِهم، ولا يبحثون عن دور مُهم للقيادة والسلطة. إنَّهم سعداء لكونهم الصغار.   

الطفل الصغير مُتواضع، بدلاً مِنْ أنْ يحاول أنْ يكون الأكبر سنَّاً. عندما يَضطر الطفل إلى الأكل، أو يحتاج ما يحميه مِنَ البرد، يكفيه أنْ يكون في حضرة والديه، ويكون سعيداً. في الواقع، مِنْ الجيّد جدّاً أنْ نَرى مدى سعادة الطفل عندما يكون في حُضنِ والديه. حتّى لو كانت هناك مخاطر أو مواقف صعبة على الوالدين، فإنَّ الطفل يكون هادئاً إذا كان معهم. لذا فهو مُتواضع. لا يهدف إلى الأشياء العَظيمة.   

الأطفال لديهم هذا التواضع وهذه القناعة وهذا الهدوء لأنَّهم يؤمنون بوالديهم. يثق الطفل الصغير بأي شيء يقوله له والديه، دون التَفكير في نفسِهِ ليرى ما إذا كان هذا الشيء يبدو مُمكنًا بالنسبة له. مِنْ الواضح أنَّ هذهِ الثِقة العَمياء يمكن أنْ تكون ذات فائدة عظيمة للآباء في مُهمَّتهِم الشَّاقة المتمثِّلة في تربيَّة أطفالِهم ورعايتهم. في الوقت نفسه، يمكن إساءة استخدامها لِخداع الطفل. ومع ذلك، نلاحظ أنَّ الطفل الصغير لديه ثِقة كبيرة. إذا وعده الوالد أنَّه سيفعل شيئًا مُعينًا، فلن يهتم الطفل بكيفيَّة تَمكُّن الوالد مِنْ القيام بذلك. تكفيه كلمة الوالد.   

اعتبار أخير: الطفل الصغير ليس لديه رغبة في المال. بنفس الطريقة الّتي لا يهتم بها أنْ يكون كبيرًا، أي أنَّ الطفل الصغير يريد أنْ يتلقّى الرعايَّة والحمايَّة مِنَ الأخ الأكبر سنّاً  إنَّه يهتم بأن يكون مَحبوبًا ويعتَنى به، ولا يهتم حتّى بامتلاك المال. إنَّه سعيد ببعض الأشياء.   

لذلك الطفل الصغير متواضع، لا يرضى بالقليل، يكفي أنْ يكون مع والديه. مِنَ الواضح أنَّه يعرف أنَّه لا يستطيع فعل ذلك بمفرده. أدنى خوف يكفي للطفل، الّذي يركض على الفور إلى الوالد. يعلم أنه ضعيف ومحتاج. في كل هذا نرى تواضعه.   

دعونا نُقارن هذه المواقف مع مواقف التلاميذ في تلك الحالة. كانوا في مَحضر يسوع الّذي عرفوه بأنَّه المسيح. مِنْ خلالهِ، كان لديهم كل ما يحتاجون إليه. لذلك، كان يجب أن يكونوا متواضعين ومكتفين بالبركات العظيمة الّتي حصلوا عليها في المسيح.   

بدلاً مِنْ ذلك، أرادوا المزيد. أرادوا أنْ يكونوا كبار ومُهمّين. أرادوا أنْ يكون لهُم سلطة على الآخرين. كانوا بحاجة إلى التواضع، وبدلاً مِنْ ذلك أرادوا أنْ يكونوا عظماء. كان عليهم أنْ يصيروا مثل الأطفال، لأنَّهم بهذه الطريقة فقط يمكنهم أنْ يدخلوا ملكوت السَّماوات. في الواقع، لا أحد يستطيع أنْ يدخل الجنَّة ما لم يتواضع.   

هكذا يذكرنا إنجيل اليوم بالحضور السِّرّي للملائكة بجانبنا. حمايتهم لنا لا تعمل كشكل من أشكال التأمين على الحياة. إنَّ وجودهم يجعلنا نختبر بطريقة سرّيَّة إمكانيَّة الحياة ذاتها. لأنَّه عندما نشعر أنَّ أكتافنا مُغطاة، يمكننا أيضًا السير إلى الأمام. الملاك الحارس لا يوضع بجانبنا لتجنب كل الأخطار، بل ليجعلنا نتَجرّأ على السير في الحياة رغم الأخطار. لكن هذا الحضور مُفيد فقط حين نعود ونَصير “مثل الأطفال”، كما يقول يسوع. بعبارةٍ أُخرى، كلما كبرنا، زاد تفكيرنا كثيرًا في الأشياء لدرجة إقناع أنفسنا بأنَّها لا تستَحق العناء، وبالتالي بدلاً مِنَ المضي قُدمًا، نتوقّف. ربما ينبغي لنا اليوم أنْ نسمح لأنفسنا باستئناف الرحلة. نحن لسنا وحدنا. أليست هذه هيّ الرسالة العظيمة للمسيحيَّة كلها؟ نحن لسنا وحدنا. نحن ننتمي إلى شخص ما. نحن محبوبون. شخص ما يهتم بنا ليس بطريقة مُشتَّتة أو مُشوَّشة ولكن لدرجة أنْ يبذل حياته لأجلنا.  

بقلم: الاب الدكتور سامي الريس

عن الاب سامي الريس

شاهد أيضاً

مواهب الروح القدس

هو روح الله الأقنوم الثالث في الثالوث الاقدس وقد ذكر هذا التعبير ثلاث مرات فقط …