عيد البشارة

قصة البشارة هي قصة دعوة، قصة تهمّنا كثيرا، لأنَّنا كلّنا مدعوون لسماع مثل هذه الدعوة. فلنا نحن أيضا وبطرق مختلفة، يُرسل الله ملاكا ليقدّم لنا رسالة وما حياتنا إلا إجابة لدعوة الله.  

لنضع أنفسنا في مدرسة العذراء مريم كي نتعلم  الـ ” نعم“، ونعرف الـ “ها أنا ذا“. قصة هذا النص الانجيلي لها أهمية كُبْرَى في ليتورجيتنا المقدّسة. هكذا نقرأ: “وفي الشهر السادس أرسل جبرائيل الملاك من الله“. لماذا يُعطي الإنجيلي هذه الخصوصية للقصة؟ ففي الوهلة الأولى تبدو هذه القصة وكأنها لا قيمة لها. “وفي نفس هذا الشهر“. فقبل بشارة العذراء كانت هناك بشارة أخرى لميلاد يوحنا، هذه الدعوة كانت لزكريا ولإليشباع زوجته. إذن دعوة مريم العذراء لم تكن دعوة وحيدة بل هناك دعوات كثيرة وكل واحد يشترك في الدعوة العامة عِبر الدعوة الخاصة التي يرسلها الله له. فكما في الأوركسترا هناك العديد من العازفين يشتركون في عمل مشترك، كذلك في عمل الله يشترك عازفين كثيرين لتقديم سمفونية رائعة من عمل الله، هو مثل عمل الفسيفساء، لأنه فقط في فسيفساء العمل الجماعي نستطيع أن نرى وجه الله، وجه الله المُحِبْ. في أحدى الأيام قالت الأم تيريزا هذه الكلمات الرائعة: “إذا كان هناك بين الدعوات والمواهب خندق، سوف تسوس المواهب“. هكذا يجب على الجميع أن يُكَوِّنوا جسراً، والمواهب يجب أن تكون في وحدة تامة، لأنه بهذه الطريقة فقط نبقى أوفياء لمشروع الله.  

وفي الشهر السادس أُرسِل جبرائيل الملاك من الله“. هذه هي رسالة الملاك التي هي في نفس الوقت دعوة مريم. لم تختار الكنيسة مريم العذراء بل الله هو الذي إختارها. لأن الله هو الذي خلقها. وبالتالي يريد الخالق أن يدخل في تاريخ البشرية طارقاً باب الإنسانية من خلال مريم. فهو لا يتجاوز حقوق البشرية وحريتها ولا يتجاهلها. ففي سفر الرؤيا مكتوب: “ها أنا واقف على الباب أدُقُّهُ، فإن سَمِعَ أحدٌ صوتي وفَتَح الباب دخلتُ إليه وتَعشَّيت مَعَهُ وتَعَشَّى هو معي” (رؤ 3: 20). إنها كلماتٍ رهيبة: الله يقرع الباب. ولكن أليس هو سيد الكل؟ نعم الله هو سيد الكل لكنه محبة. ولأنه حُب، ففي الحب لا مكان للجبر أو الإكراه. يمكن للحب أن يطرق فقط.  

يأتي الملاك جبرائيل إلى الجليل، إلى الناصرة، أي إلى أرض التواضع. في أرض التواضع تنبت دعوة العذراء مريم، لهذا فعظمتها تكمن في تواضعها الكبير. لم تكن العذراء تفكّر بكبريائها، بل كانت تعيش إيمانها المتواضع بحرية، وهي بكامل حريتها وبشكل عفوي ورائع فتحت بابها لدعوة الله. هكذا فقط كل تَكبُّر موجود في داخل حياتنا يُلغي حرّيتنا، ويمنعنا من التمتّع بحريتنا البشرية الحقيقية. فيمنعنا من قول النعم لله ومن الإستعداد لتمكين مشيئته فينا وفتح الباب له.  

يدخل الملاك بيت مريم ويجلب لها رسالة. مضمون هذه الرسالة موجود في الكتاب المقدّس ضمن النبؤات المسيحانية، قدوم المسيح المخلّص، كما هو مذكور في سفر صفنيا: “ترنّمي يا ابنة صهيون واهتفوا يا بني إسرائيلَإفرحي يا أورشليم وابتهجي بكل قلبكِ” (صفنيا 3: 14-15).  

تعلم مريم أن هذه الكلمة مليئة بالمعاني. “ترنّمي يا ابنة صهيون” أنها ممتلئة من الجمال لأنها ممتلئة من النعمة! الرب معك، أي أنكِ حصلت على رسالة عظيمة! ربما لم ولن يتوقّع أحد أن الله يتكلّم مع مريم مبشّرا إيّاها بولادة المسيح المخلّص، بشارة فرح. أيضاً العذراء يقول القديس لوقا “إضطربت من كلامه” هذه الكلمات لها معانٍ قوية. أنه شعور مقلق مليء بالخوف. لماذا؟ أليست كلمات فرح؟ “أفرحي أيتّها الممتلئة نعمة” لماذا إذن تضطرب مريم؟ أنه اضطراب الإنسان المتواضع! اضطراب تعجّب. هو اضطراب الإنسان الذي يشعر بهيبة الله القدوس وعظمته! هذه هي  المفارقة بيننا وبين مريم. لأن مريم كانت تفكّر بأنها غير مستحقّة لهذه الرسالة وليست جديرة بنقلها! لماذا هذا الشعور؟ لأنها تشعر أنها صغيرة أمام عظمة الله.  

لكنها مع هذا استطاعت أن تقول للملاك بعد أن شعرت بحريتها، أنها تستطيع أن تفتح بابها للرب تقول: “ها أنا أمّة الرب فليكن لي حسب قولك“. نحن أيضاً في بعض الأحيان نقول لله ها أنا ذا، ولكن ليس دائماً مع قليل من الشك! كما نقول في بعض الأحيان:
ها أنا! ولكن مع شروط. وبعض الأحيان نحدد مواقفنا ونرغب في أن يقبل هو ما نريد.  

ها أنا ذا التي قالتها العذراء تجسّدها بشكل حقيقي، فهي لا تضع شروط أو أي شيء أمام الله بل بالعكس تجسّد تطبيقها للخدمة التي اوكِلتْ إليها من خلال زيارتها لنسيبتها مباشرة. فمن يقبل الله في قلبه فهو الإنسان المنفتح له والمستعد لتكميل مشروع الخلاص. أنها تطبّق ما هو أساس الإيمان اليهودي: “إسمع يا إسرائيل” أنها تعيش الإيمان بصورته الحقيقية. هكذا يقول الإنجيلي: بعد أن سمع الملاك النعم من مريم العذراء يختفي لأنه عرف أن مريم عرفت ما هي رسالتها ودعوتها.  

هكذا تصبح العذراء في بيت الرب منذ ذاك الحين وإلى الأبد، السبب الرئيسي هو في تواضعها ومحبتها لخدمة الرب وتحقيق رسالته على الإرض. على هذا الأساس ستستطيع إليصابات أن تقول: “ما أن سمعتُ صوتَ سلامِكِ حتّى تحرّك الجنين من الفرح في بطني “.  

ماذا ننتظر من سر البشارة هذا؟ لماذا تم اختيار مريم كي تكون والدة الرب؟ لماذا نالت هذه الطوبى؟ قلت في البداية السبب هو تواضعها! إيمانها المتواضع. تطويبتها هي لأنها آمنت بكلمة الله، بإيمانها وقبولها بنى الله الأمومة المسيحانية، حيث من خلالها ولد لنا أبن العلي فدخل الله في تاريخ البشرية.  

أخوتي الأعزاء هذه الكلمات تُقرأ لنا اليوم من خلال صفحة إنجيل لوقا. هذه الصفحة يعيشها كل واحد منّا اليوم حسب شخصيته وخصوصيته. لكن هذا الأعلان وصل لنا أيضاً: الله يطرق بابنا، ونحن أحرار في قبوله. يريد الله منّا أيضاً أن نقول ها أنا ذا، على أن يكون مشابه لكلمات مريم وبنفس القوة. 

بقلم: الاب الدكتور سامي الريس

عن الاب سامي الريس

شاهد أيضاً

قراءات الجمعة الثانية بعد الميلاد

خروج 15 : 11 – 21 ، ارميا 31 : 13 – 17 من مثلك …