أَفْكَارِي لَيْسَتْ أَفْكَارِكُمْ

لأَنَّ أَفْكَارِي لَيْسَتْ أَفْكَارَكُمْ، وَلاَ طُرُقُكُمْ طُرُقِي، يَقُولُ الرَّبُّ. لأَنَّهُ كَمَا عَلَتِ السَّمَاوَاتُ عَنِ الأَرْضِ، هكَذَا عَلَتْ طُرُقِي عَنْ طُرُقِكُمْ وَأَفْكَارِي عَنْ أَفْكَارِكُمْ. أشعيا55: 8 – 9.

الحياة مليئة بالمأسي والكوراث والمصائب والأمراض الفواجعة وهذه هي لغتها التي تملأ قلب الأنسان وتشغل فكره بالحزن واليأس الحزين، ما يتعلق به من مشاكله وهمومه الفردية والعائلية والمجتمعية المالية والادارية لمطلبات المعيشة . .الخ. وبالمقابل الوجة الأخر الأيجابي فيه رؤية أمانية وأماله السعيدة بالافراح والمناسبات والمسرات الجميلة والأنجازات العلمية والعملية، لأن الحياة متغيرة حسب المكان والزمان، ولكن يبقى أيمان الأنسان الراسخ باللـه.

حياة أيوب تغيرت وتتحولت من الثراء الى الفقر المدق ومن الصحة الى المرض، ثم عادت اليه مرة أخرى. فهي دراسة حياتية ولاهوتية عن الألم وسيادة اللـه المطلقة، وصورة للأيمان الراسخ. لقد تعرض أيوب للامتحان كبير، لكن حياته كانت مبنية على ثقته باللـه، فثبت الى الاخر.

أيوب كان مزارع في أرض عوص، وكان له عائلة كبيرة وعدد كبير من الخدم ويمتلك الآلاف من الغنم والجمال وغيرها من المواشي، وفجأة يمثل الشيطان الخصيم، امام اللـه مُدعياً أن أيوب إنما يتكل على اللـه لأنه غني وكل شيئ يسير معه على خير ما يرام. وهكذا يبدأ أمتحان أيمان أيوب.

ويُسمح للشيطان أن يقضي على أبناء أيوب وخدمه ومواشيه ورعاته وبيته، ولكن أيوب يظل متكلاً على اللـه. فيهاجم الشيطان في جسده، فيغيطه بقروح مؤلمة، وتقول زوجته أن يجذف على اللـه ويموت. فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: أَنْتَ مُتَمَسِّكٌ بَعْدُ بِكَمَالِكَ؟ بَارِكِ اللهِ وَمُتْ. فَقَالَ لَهَا: تَتَكَلَّمِينَ كَلاَمًا كَإِحْدَى الْجَاهِلاَتِ! أَالْخَيْرَ نَقْبَلُ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَالشَّرَّ لاَ نَقْبَلُ؟. فِي كُلِّ هذَا لَمْ يُخْطِئْ أَيُّوبُ بِشَفَتَيْهِ. أيوب2: 9 – 10.

أيوب يفقد مملكاته وبلغت مواشيه سبعة الأف من الغنم، وثلاثة الأف جمل، وخمس مئة زوج بقر، وخمس مئة أتان. وزاد على بيته الذي كان أولاده السبعة وبناته الثلاثة صدمة ريح عاصفة قوية فسقط على العشرة وماتوا. وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذْ جَاءَ آخَرُ وَقَالَ: بَنُوكَ وَبَنَاتُكَ كَانُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ خَمْرًا فِي بَيْتِ أَخِيهِمِ الأَكْبَرِ، وَإِذَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ جَاءَتْ مِنْ عَبْرِ الْقَفْرِ وَصَدَمَتْ زَوَايَا الْبَيْتِ الأَرْبَعَ، فَسَقَطَ عَلَى الْغِلْمَانِ فَمَاتُوا، وَنَجَوْتُ أَنَا وَحْدِي لأُخْبِرَكَ. فَقَامَ أَيُّوبُ وَمَزَّقَ جُبَّتَهُ، وَجَزَّ شَعْرَ رَأْسِهِ، وَخَرَّ عَلَى الأَرْضِ وَسَجَدَ، وَقَالَ: عُرْيَانًا خَرَجْتُ مِنْ بَطْنِ أُمِّي، وَعُرْيَانًا أَعُودُ إِلَى هُنَاكَ. الرَّبُّ أَعْطَى وَالرَّبُّ أَخَذَ، فَلْيَكُنِ اسْمُ الرَّبِّ مُبَارَكًا. أيوب1: 18 – 22.

فَلَمَّا سَمِعَ أَصْحَابُ أَيُّوبَ الثَّلاَثَةُ بِكُلِّ الشَّرِّ الَّذِي أَتَى عَلَيْهِ، جَاءُوا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ مَكَانِهِ: أَلِيفَازُ التَّيْمَانِيُّ وَبِلْدَدُ الشُّوحِيُّ وَصُوفَرُ النَّعْمَاتِيُّ، وَتَوَاعَدُوا أَنْ يَأْتُوا لِيَرْثُوا لَهُ وَيُعَزُّوهُ. أيوب2: 11.

رثاء أصحاب أيوب:
ويأتي ثلاثة من أصحابه أليفاز التيماني وبلد الشوحي وصوفر النعماني، لزيارته ويجلسون في البداية يقاسمون أيوب أحزانه في صمت. ولكن عندما شرعوا في الكلام عن أسباب مآسيه، قولوا له أن الخطية هي علة آلامه، فيجيب عليه أن يعترف بخطاياه، ويرجع الى اللـه. ولكن أيوب يتمسك ببراءته. فقدموا رثائهم وعزاهم، وأعطى كل واحد منهم رأيه في سبب مأساة أيوب.

قال صديقة الأول: أليفاز التيماني: رأيه على أختباره الشخصي فقال: كما قد رأيت أن الحارثين إثما والزراعين شقاوة يحصدونها. كَمَا قَدْ رَأَيْتَ: أَنَّ الْحَارِثِينَ إِثْمًا، وَالزَّارِعِينَ شَقَاوَةً يَحْصُدُونَهَا. أيوب4: 8.

قال صديقة الثاني: بلد الشوحي: رأيه على التاريخ وأحداثه فقال: اِسْأَلِ الْقُرُونَ الأُولَى وَتَأَكَّدْ مَبَاحِثَ آبَائِهِمْ، لأَنَّنَا نَحْنُ مِنْ أَمْسٍ وَلاَ نَعْلَمُ، لأَنَّ أَيَّامَنَا عَلَى الأَرْضِ ظِلٌّ. أيوب8: 8 – 9.

قال صديقه الثالث: صوفر النعماني: رأيه الجريمة والعقاب والزرع والحصاد. فقال: وَلكِنْ يَا لَيْتَ اللهَ يَتَكَلَّمُ وَيَفْتَحُ شَفَتَيْهِ مَعَكَ، وَيُعْلِنُ لَكَ خَفِيَّاتِ الْحِكْمَةِ! إِنَّهَا مُضَاعَفَةُ الْفَهْمِ، فَتَعْلَمَ أَنَّ اللهَ يُغْرِمُكَ بِأَقَلَّ مِنْ إِثْمِكَ. أيوب11: 5 -6.

الصوت الرابع: ولما لم يستطيعوا أن يقنعوا أيوب بخطيته، لزم الأصدقاء الثلاثة الصمت وقطعوا الحوار. وهنا يتدخل في الحوار الصوت الرابع، هو أليهو الشاب. ولكن أقواله كانت متشابهة لأقوال أصدقائه الثلاثة، فلم يهتم أحد منهم بالرد عليه. فَكَفَّ هؤُلاَءِ الرِّجَالُ الثَّلاَثَةُ عَنْ مُجَاوَبَةِ أَيُّوبَ لِكَوْنِهِ بَارًّا فِي عَيْنَيْ نَفْسِهِ.

الصوت الخامس: وهنا يتدخل الصوت الخامس بغضب مع الرثاء وأدكار الصغار، فَحَمِيَ غَضَبُ أَلِيهُوَ بْنِ بَرَخْئِيلَ الْبُوزِيِّ مِنْ عَشِيرَةِ رَامٍ. عَلَى أَيُّوبَ حَمِيَ غَضَبُهُ لأنَّهُ حَسَبَ نَفْسَهُ أَبَرَّ مِنَ اللهِ. وَعَلَى أَصْحَابِهِ الثَّلاَثَةِ حَمِيَ غَضَبُهُ، لأَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا جَوَابًا وَاسْتَذْنَبُوا أَيُّوبَ. وَكَانَ أَلِيهُو قَدْ صَبَرَ عَلَى أَيُّوبَ بِالْكَلاَمِ، لأَنَّهُمْ أَكْثَرُ مِنْهُ أَيَّامًا. فَلَمَّا رَأَى أَلِيهُو أَنَّهُ لاَ جَوَابَ فِي أَفْوَاهِ الرِّجَالِ الثَّلاَثَةِ حَمِيَ غَضَبُهُ. فَأَجَابَ أَلِيهُو بْنُ بَرَخْئِيلَ الْبُوزِيُّ وَقَالَ: أَنَا صَغِيرٌ فِي الأَيَّامِ وَأَنْتُمْ شُيُوخٌ، لأَجْلِ ذلِكَ خِفْتُ وَخَشِيتُ أَنْ أُبْدِيَ لَكُمْ رَأْيِيِ. قُلْتُ: الأَيَّامُ تَتَكَلَّمُ وَكَثْرَةُ السِّنِينِ تُظْهِرُ حِكْمَةً. وَلكِنَّ فِي النَّاسِ رُوحًا، وَنَسَمَةُ الْقَدِيرِ تُعَقِّلُهُمْ. لَيْسَ الْكَثِيرُو الأَيَّامِ حُكَمَاءَ، وَلاَ الشُّيُوخُ يَفْهَمُونَ الْحَقَّ. أيوب32: 1 – 9.

أراء أصحابه الثلاثة:
فلا الأختبار الشخصي، ولا التاريخ الأنساني، ولا العدالة تعطينا الجواب الصحيح لأسباب مأساة الأنسان. هنا يقول اللـه للأنسان: لأَنَّ أَفْكَارِي لَيْسَتْ أَفْكَارَكُمْ، وَلاَ طُرُقُكُمْ طُرُقِي، يَقُولُ الرَّبُّ. لأَنَّهُ كَمَا عَلَتِ السَّمَاوَاتُ عَنِ الأَرْضِ، هكَذَا عَلَتْ طُرُقِي عَنْ طُرُقِكُمْ وَأَفْكَارِي عَنْ أَفْكَارِكُمْ. أشعيا55: 8 – 9.

أخر المطاف: حكمة وقدرة ومعرفة:
لقد جلس أيوب مفترشاً الرماد ومتسائلً: لِمَ يُعْطَى لِشَقِيٍّ نُورٌ، وَحَيَاةٌ لِمُرِّي النَّفْسِ؟ أيوب3: 20. في أخر المطاف أجاب الرب أيوب من العاصفة وقال: من هذا الذي يظلم القضاء بكلام بلا معرفة. اشدد الأن حقويك كرجل. فأني أسالك فتعلمني. فَأَجَابَ الرَّبُّ أَيُّوبَ مِنَ الْعَاصِفَة وَقَالَ: مَنْ هذَا الَّذِي يُظْلِمُ الْقَضَاءَ بِكَلاَمٍ بِلاَ مَعْرِفَةٍ؟ اُشْدُدِ الآنَ حَقْوَيْكَ كَرَجُل، فَإِنِّي أَسْأَلُكَ فَتُعَلِّمُنِي. أيوب38: 1 – 3. ثم سأل الرب أيوب أسئلة تخص بخلق الأرض، والبحر، والنور، وخزائن الثلج، والمطر، والفلك، والوحوش، والطيور، والمخلوقات الجبارة. وكأنه يقول لأيوب: أنا اللـه الكلي الحكمة، الكلي القدرة الكلي المعرفة. لا تسألني عن سبب المأسي التي حلت بك، بل ثق في حكمتي، وقدرتي ومعرفتي، فأنا لا يمكن أن أفعل خطاً. وعندما فتح الرب عيني أيوب فرأى مدى عظمة الرب وقدرته وحكمته ومعرفته، فهتف أيوب قائلاً: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ، وَلاَ يَعْسُرُ عَلَيْكَ أَمْرٌ. فَمَنْ ذَا الَّذِي يُخْفِي الْقَضَاءَ بِلاَ مَعْرِفَةٍ؟ وَلكِنِّي قَدْ نَطَقْتُ بِمَا لَمْ أَفْهَمْ. بِعَجَائِبَ فَوْقِي لَمْ أَعْرِفْهَا. اِسْمَعِ الآنَ وَأَنَا أَتَكَلَّمُ. أَسْأَلُكَ فَتُعَلِّمُنِي. بِسَمْعِ الأُذُنِ قَدْ سَمِعْتُ عَنْكَ، وَالآنَ رَأَتْكَ عَيْنِي. لِذلِكَ أَرْفُضُ وَأَنْدَمُ فِي التُّرَابِ وَالرَّمَادِ. أيوب42: 2 – 4. وأنتهت مأساة أيوب بتعوض إلهي اذ زاد الرب على كل ما كان لأيوب ضعفاً. وَرَدَّ الرَّبُّ سَبْيَ أَيُّوبَ لَمَّا صَلَّى لأَجْلِ أَصْحَابِهِ، وَزَادَ الرَّبُّ عَلَى كُلِّ مَا كَانَ لأَيُّوبَ ضِعْفًا. أيوب42: 10.

الخشوع والتواضع:
أخيراً يتكلم اللـه من عاصفة قوية. وأذ يواجه أيوب بقوة اللـه وجلاله، يخر أيوب خاشعاً متواضعاً امام اللـه، لا يستطيع الكلام. ويوبخ اللـه أصحاب أيوب. وتنتهي قصته بأستعادة صحته وسعادته وثروته.

نتعلم من حياة أيوب أخيراً، عندما نضع كل شيئ بحكمته وقدرته ومعرفته يبقى اللـه معنا، وهذا يكفينا. فبالآلام نتعلم أن اللـه فيه كل الكفاية لحياتنا ومستقبلنا. فيجب أن نحُب اللـه. بغض النظر عما يسمح لنا به، سواء كان خير وبركة ونعمة أو الآم وحزن ومرض. والأمتحان عسير، ولكنه كثيراً ما يؤدي الى علاقة أعمق باللـه. والذين يتحملون أمتحان أيمانهم، يستمتعون بمجازاة اللـه العظيمة في النهاية.

وعندما نقرأ سفر أيوب، نستطيع أن نحلل حياتنا ونتأكد من أن اللـه هو أساسها. في أحتمال الآلام والصبر عليها، بالأنبياء الذين تكلموا بأسم الرب، يقال عن الصابرين على الأم: طوبى لهم. وقد سمعتم وقرأتم عن صبر أيوب. وأرايتم كيف عامله الرب في النهاية. وهذا يبين أن الرب كثير الرحمة والشفقة. خُذُوا يَا إِخْوَتِي مِثَالًا لاحْتِمَالِ الْمَشَقَّاتِ وَالأَنَاةِ: الأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا بِاسْمِ الرَّبِّ. هَا نَحْنُ نُطَوِّبُ الصَّابِرِينَ. قَدْ سَمِعْتُمْ بِصَبْرِ أَيُّوبَ وَرَأَيْتُمْ عَاقِبَةَ الرَّبِّ. لأَنَّ الرَّبَّ كَثِيرُ الرَّحْمَةِ وَرَؤُوفٌ. يعقوب5: 10 – 11.

شامل يعقوب المختار

عن شامل يعقوب المختار

شاهد أيضاً

قراءات عيد مريم العذراء المحبول بها بلا دنس

الحكمة والشريعة سفر يشوع بن سيراخ 24 : 1 – 32 الحكمة تمدح نفسها وتفتخر …