الباعوثة بين صوم يونان وصوم الكلدان* ….. كيف ورد الصوم في الكتاب المقدس


الصوم هو موسم روحي يتجدد فيه ايماننا بالتوبة والغفران المقترن بالصلاة والعودة الى الله، هو زمن التأمل والطاعة والإصغاء إلى كلام الله. الصوم هو الرحمة والمحبة ومساعدة الفقراء والمهمشين وتكريمهم ونتذكر دائما الصلاة الربية “أعطنا خبزنا كفاف يومنا” والزائد هو للفقراء والمحتاجين والصوم محطة في حياة المؤمنين لتصفية القلب والضمير وهو نزهة روحية، لتجديد الايمان والرجاء والمحبة وهو طريق العودة الى أبينا الذي في السماوات فالصوم والصلاة جناحا الإيمان، بهما يحلق المؤمنين إلى السماء. الصوم في العديد من الثقافات والأديان يُعرف بأنه الامتناع عن تناول الطعام بشكل جزئي أو كلي ولفترة زمنية محددة ووفقاً لتراثها الفكري، وله العديد من الفوائد التي تتصل بتحسين وظائف الجسم منها:

  1. تعزيز التحكم في نسبة السكر في الدم عن طريق الحدّ من ارتفاع مستوياته.
  2. يعزز مقاومة الجهاز المناعي في الجسم ويمنع دخول الجراثيم، والبكتيريا، أو فيروسات، أو اية إصابة في أنسجة الجسم.
  3. يُعزز صحة القلب ويمنع ارتفاع ضغط الدم، والدهون الثلاثية في الدم، والكوليسترول.
  4. يُعزز وظائف الدماغ والوظيفة الإدراكية ويمنع الاضطرابات العصبية.
  5. يعمل على تخفيف الوزن عن طريق الحدِّ من السعرات الحرارية وزيادة التمثيل الغذائي.
  6. يؤخر الشيخوخة ويُزيد معدلات البقاء على قيد الحياة.

لماذا وكيف ورد الصوم في الكتاب المقدس:

بعهديه القديم والجديد يذكر الصوم في عدد كبير من آياته مع التركيز على أهميته ودوره وحاجته للمؤمنين له كما ونستنتج من الآيات الكثيرة التي تذكره ان بعضه صوما مفروضا والأخر صوما طوعياً.

فصوم العهد القديم هو مسيرة وعودة الى الله في التوبة من خلال الصلاة والتأمل وعمل الخير والرحمة والحق كما يقول النبي زكريا: “احكموا حكم الحق واصنعوا الرحمة والرأفة…” لذا، كانت الأصوام مشروطة بالتقوى وبطاعة كلمة الله وبالابتعاد عن ظلم الآخرين. تشير الآيات الى الصوم تحت تسمية الفريضة الأبدية وتحدده بيوم وساعات هذا الصوم، فرضته على كل مؤمن. ففي سفر العدد نقرأ: “وفي اليوم العاشر من الشهر السابع هذا، محفل مقدس يكون لكم، تذلّلون فيه أنفسكم، ولا تعملون فيه عمل خدمة”. الصوم الطوعي الذي قام به بعض الأنبياء ومنهم داوود الذي صام على أمل ان يرحمه الرب وان يحيا الصبي الذي ولد له من امرأة أورّيا: “لما كان الصبي حيا، صمت وبكيت، لأني قلت في نفسي: من يعلم؟ قد يرحمني الرب ويحيا الصبي”. وفي مواقع كثيرة في العهد القديم نرى ان الصوم الطوعي هو عبادة وايمان وتقشف وتواصل مع الله بالصلاة.

الصوم في العهد الجديد لا نجد عنه أية إشارة على انه “فرض” بل كل الآيات التي ذكرته تؤكد على ضرورته وأهميته في الحياة المسيحية، ورتبته الكنيسة فيما بعد، علما أن تقاليد الصوم تختلف بحسب فكر وتراث الكنائس وفي أماكن مختلفة حول العالم، ويوجد أكثر من مناسبة وزمن للصوم، لكننا نرى ان السيد المسيح يشير الى أهميته وفعاليته عندما يخاطب التلاميذ قائلاً: “وَأَمَّا هذَا الْجِنْسُ فَلاَ يَخْرُجُ إِلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ”(متى 17- 21 )، لذا يصبح الصوم أمرا مهما في حياة المؤمن تماما كما ان الصلاة مهمة وضروري في حياة التعبد والتقشف، و جسراً للتواصل مع الله، ومسيرة للتوبة والعودة الى الاب، لذا نلاحظ ان التلاميذ كانوا يصومون ويصلون قبل أي عمل وقبل اتخاذ أي قرار مهم بالنسبة للحياة المسيحية وللكنيسة الأولى، وهذه اشارة تؤكد على أهمية ودور الصوم والصلاة في حياة المؤمنين وفي القرارات التي يتخذونها: “قال لهم الروح القدس: افردوا برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما اليه”. فصاموا وصلوا، ثم وضعوا عليهما أيديهم وصرفوهما”، وفي موقع آخر نقرأ ان الرسل أيضا قد صاموا وصلوا قبل اتخاذ قرارهم بتعيين مسؤولين في الكنيسة: “فعيّنا شيوخا في كل كنيسة وصليا وصاما، ثم استودعاهم الرب الذي آمنوا به” الصوم ليس مجرد طاعة أمر أو وصايا، بل يجب أن يكون بدافع من رغبتنا الشخصية مع روح التواضع والمسرة:

يعلمنا الرب يسوع كيفية الصوم لنيل الغفران العظيم فيقول: “وَمَتَى صُمْتُمْ فَلاَ تَكُونُوا عَابِسِينَ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُغَيِّرُونَ وُجُوهَهُمْ لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ صَائِمِينَ، اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ، وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ فَادْهُنْ رَأْسَكَ وَاغْسِلْ وَجْهَكَ، لِكَيْ لاَ تَظْهَرَ لِلنَّاسِ صَائِمًا، بَلْ لأَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ، فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً”(مت 6: 17،16 ،18). ويعلمنا الرب يسوع ايضاً أن الصوم المقرون بالصلاة يمنحنا قوة عظيمة على طرد الأرواح الشريرة فيقول: “فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: لِعَدَمِ إِيمَانِكُمْ. فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَوْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَل لَكُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهذَا الْجَبَلِ: انْتَقِلْ مِنْ هُنَا إِلَى هُنَاكَ فَيَنْتَقِلُ، وَلاَ يَكُونُ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَيْكُمْ، “وَأَمَّا هذَا الْجِنْسُ فَلاَ يَخْرُجُ إِلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ”(متى 17- 21،20).

صوم يونان الباعوثة

يرمز إلى النبي يونان حينما ارسله الله إلى اهل نينوى وحاول الهرب خوفاً منهم، وفي الماء ابتلعه الحوت لمدة ثلاثة ايام فصلى إلى الله من جوف الحوت واستجاب له وخلصه فذهب بعدها إلى اهل نينوى يحثهم على التوبة عن الخطايا. لهذا نلتزم بهذا الصوم حتى ان الكثير ينقطع تماما عن الطعام خلال هذا الصوم “فَأَجابَ وَقَالَ لَهُمْ: جِيلٌ شِرِّيرٌ وَفَاسِقٌ يَطْلُبُ آيَةً، وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ النَّبِيِّ، لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَال، هكَذَا يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي قَلْب الأَرْضِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَال، رِجَالُ نِينَوَى سَيَقُومُونَ فِي الدِّينِ مَعَ هذَا الْجِيلِ وَيَدِينُونَهُ، لأَنَّهُمْ تَابُوا بِمُنَادَاةِ يُونَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ يُونَانَ ههُنَا!” (مت 12: 41،40،39) “وَصَارَ قَوْلُ الرَّبِّ إِلَى يُونَانَ بْنِ أَمِتَّايَ قَائِلًا: قُمِ اذْهَبْ إِلَى نِينَوَى الْمَدِينَةِ الْعَظِيمَةِ وَنَادِ عَلَيْهَا، لأَنَّهُ قَدْ صَعِدَ شَرُّهُمْ أَمَامِي”. فالباعوثا او الطلب هي اذا ذكرى لتوبة اهالي نينوى، الذين سمعوا كرازة يونان فقضوا اياما بالصلاة والصوم نادمين على خطاياهم وسائلين الرحمة من الله فعلى مثالهم نقضي نحن ايضا ثلاثة ايام توبة بالصلاة والصوم والصدقة واعمال الرحمة والمحبة الاخوية والتقرب الى الاسرار لكي يعفوا عنا الرب.

*صوم الكلدان الباعوثة كلمة كلدانية تعني طلب او التماس او تضرع، هي زمن للصلاة والصوم، الباعوثا وبحسب البطريركية الكلدانية، صوم ليس له علاقة بصوم نينوى بل بانتشار وباء الطاعون الذي اكتسح مناطق عديدة من العراق في القرن السابع، وبسببه قرر البطريرك والأساقفة وقتها القيام بهذه العبادة لرفع الصلوات، والصوم على نية وقف الكارثة التي حلت بالناس، فكانت النتيجة أن بطل الموت وزال شبح الطاعون، فاتفق رؤساء الكنيسة، منذ ذلك الوقت، على أن يحيوا هذه الذكرى سنويا من خلال صوم الباعوثة الذي تواصل الكنيسة القيام به إلى يومنا هذا.

اعزائي صومنا هو مشاركة في خبرة المسيح التي عاشها مجرّبا في البرية من الشيطان. لذا صومنا هو إدانة وتحدٍّ للشيطان وللخطيئة وللشر، وصمود وثبات في الايمان لقد علمنا الرب يسوع ان التغلب على الشر والتجارب ولا يمكن ان يتحقق ذلك الا بالصلاة والصوم، ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: “لقد أشار ربنا ان الصوم مع الصلاة يخرج الشيطان. فسبيلنا ان ننهض من غفلتنا ونحافظ على الأصوام المَرضِيّة لإلهنا، لنفوز بنعيم ملكوته” ويقول ايضا “الصوم يرفع البشر ويقرّبهم من الله: أتريد أن تعرف كم يزيّن الصوم البشر، كم يحميهم من كل جانب، كم يؤمّن حياتهم، وهكذا نرى أن الصوم جعل البشر يصيرون ملائكة. وليس هؤلاء فقط (أي الرهبان)، لكن الذين يمارسونه في المدن، يصعدهم إلى قمة الفضيلة. هكذا عندما أراد النبيّان العظيمان موسى وإيليا أن يقتربا من الله ويتحدثا إليه، لجئا إلى الصوم، وبمعونة الصوم صارا في شركة مع الله”.

يا رب منك نستمد القوَّة أعطِي شعبك روح يونان وطاعة نينوى، ولنقتدي بهم كيف عرفوا أرضائك بتوبتهم وبابتعادهم عن الشر، والمصالحة معك، ومع القريب لعمل الخير بكل قوة ….. ونطلب السلام الى جميع هذا العالم، والى الكنيسة القوة والمنعة لحماية المؤمنين وان تواصل احياء هذه الذكرى السنوية لصوم يونان الباعوثة ….. الى الرب نطلب.

د. طلال كيلانو

—————————————————————————————————————–

*“لا علاقة لممارسة باعوثا الكنيسة الكلدانية بأهل نينوى، إنّما يعود تنظيمها إلى تفشّي وباء الطّاعون (ܡܘܬܢܐ) في بلاد ما بين النّهرين أيّام الجاثليق حزقيال(570-581)، حيث مات الألوف من النّاس، فدعا الجاثليق النّاس إلى الصّيام والصّلاة والتّوبة لمدّة ثلاثة أيّام من أجل زوال الوباء. هذا ما حدث (طالع كتابنا سبر البطاركة ص51). إستلهم الجاثليق حزقيال ومعاونوه عناصر سفر “قصّة يونان” لمساعدة النّاس على الصّلاة والتّوبة، فنظّم مواعظ شعريّة ومداريش شجيّة، اقتبسها من ميامر مار أفرام ونرساي وآخرين، وصلوات وطلبات، وسمّاها “باعوثا نينوى” تيمّنًا بالصّوم الّذي ورد في سفر يونان”(العراق 20 كانون الثاني 2021 البطريرك ساكو: جائحة كورونا تتطلّب الباعوثا)

*النبي يونان: يونان هو الصيغة الآرامية للاسم العبراني يونة وتعني الحمامة، ويونان بن أَمتاي من سبط زبولون عبراني من القرن الخامس قبل الميلاد، وهو من أهالي جت حافر على بعد ثلاثة أميال من الناصرة. روت التوراة أنه طرح في البحر وابتلعه الحوت، ثم قذفه إلى البر بعد ثلاثة أيام. فرحل إلى نينوى وهناك دعا أهلها إلى التوبة.

*الجاثليق حزقيال: كان تلميذ مار آبا الكبير، كان اسقفاً لأبرشية الزوابي. سنة 570 انتخب جاثليقاً لكنيسة المشرق. وفي سنة 576 عقد مجمعاً كنسياً، وقد سن خلاله 39 قانوناً لخير الكنيسة، وقد استقامت الأمور على يديه ورضي به سائر الناس. وفي زمانه عرف صوم باعوثة نينوى. توفي سنة 581.

عن د. طلال فرج كيلانو

شاهد أيضاً

قراءات عيد مريم العذراء المحبول بها بلا دنس

الحكمة والشريعة سفر يشوع بن سيراخ 24 : 1 – 32 الحكمة تمدح نفسها وتفتخر …