يُقدّم لنا الرَب اليوم فرصة ثمينة للتأمُّل وإلقاء الضوء على سِرِّ الشَر هذا الّذي يحاول مُحاصَرة الخليقة وكُل التاريخ وجَعلهما أسرى له، وبالتالي أيضاً الواقع العَميق للحياة البشريَّة الّتي يريد أنْ يحتَفظ بها لِنَفسِه، بِجَعلِ كُل البَشر عَبيد للشيطان أصل الشَر.
يتّهم الفريسييون يسوع بمصطلح “بعلزبول أي رئيس الشياطين” (الآية 24) يعني أنَّ يسوع يُشفي المرضى لا للتَحرير بَل للعبوديَّة بقوّة سلبيَّة أقوى! أي في فرضيَّة التَخلّص مِنَ الشَر لِشَيطان أصغر والعبوديَّة لرئيس الشياطين! كلامٌ خطير جدّاً. إنَّ تاريخ الخلاص كُلّه، وبالتالي كلمة الله كُلّها، الكتاب المقدّس كُلَّهُ، هو إعلان صارم ضِد هذهِ “العبوديَّة”! مِنْ ثَمَّ كيف يحاول الشيطان أنْ يُشفي الإنسان المريض المنبوذ مِنْ قِبَل السُلطات الدينيَّة؟ ألا يَجعل هذا الشِفاء إمكانيَّة دخول هذا المريض، حسب الشريعة كونه تعافى، إلى هيكل الرَب لتَقديم ما تَفرضه الشريعة؟
كُل تاريخ الخلاص الّذي وهَبَه الله وأعطاه لِشعبِهِ المختار يتأسَّس في التَحرُّر! ومِنْ هذا، إلى البشريَّة جمعاء في شخصِ يسوع ابن الله وابن الإنسان! وبالتالي لِكُلِّ الخليقة وكُلِّ التاريخ! في الواقع الدرامي لهذا الرجل الأعمى الأخرس الّذي نلتَقي بِه في إنجيل اليوم تكمِن الدراما الكاملة للخلق والتاريخ. أي فرضيَّة لِقُدرة الإنسان على التَغلّب على هذا الواقع السلبي هو وَهم درامي! فالرَب يقول: “بدوني لا تستطيعون أنْ تعملوا شيء” (يوحنا 15: 5). بالتالي تأكيد حقيقة الرَهبة الإنسانيَّة هذه، مُعبَّراً عنها بالسِماتِ السلبيَّة المأساويَّة لهذا الرجل “الأعمى والأخرس”، يُعبّر عن “العبوديَّة” الراديكاليَّة لِسَجينِ الظلمة الإنسانيَّة والمحروم مِنْ الهِبة الساميّة الّتي هيَ الكلمة! إنَّ التوقُّع المسياني الّذي يرافق التاريخ الكامل لِشعبِ الله في عهد الله الأول مع إسرائيل يُعبّر جيداً عن حالة هذا الإنسان والبَشريَّة جمعاء!
حسناً، يسوع يُحرِّرَهُ مِنْ هذهِ العبوديَّة. شَفَى الرَب يسوع الرجل “حتى تَكلَّم وأبصَر”. الآن يأتي السؤال:مَنْ هوَ هذا “المُحَرِّر”؟ حدَس الجمهور الّذي يتَساءل ما إذا كان “ابن داود” الّذي ينتظره كُل تاريخ إسرائيل! لكن سلطة الشريعة المُتَمثّلة بالفريسيين، حافظي الناموس والشريعة، تُعبّر عن استمرار هذهِ العبوديَّة، كونها تَعرض فكرة أنَّ الشَر هو “عبوديَّة” سبَّبتها الخطيئة البشريَّة. وبالتالي أيضًا تحرير هذا الرجل الفقير وقبل كُل شيء الحَدث الّذي قدَّمَهُ يسوع، كُل شيء سيَظل داخليَّاً للنظام الّذي تُهَيمن عليه الخطيئة والناموس! وبالتالي، فإنَّ الحَدث الهائل الّذي حدَثَ لهذا الرَجل لا يزال “داخليَّاً” لِنظام الخطيئة هذا (لأنَّ يسوع حسب نظر السلطة الفريسيَّة ليس ابن داود). بالتالي الّذي يُهَيمِن على واقع البشريَّة بأسرِها وكُل الخليقة هو نظام الخطيئة! هذا لأنَّ الشِفاء لم يَتم مِنْ قِبَلِهِم بَل مِنْ شخص يُدعى يسوع مِنَ الناصرة. إنّهم لا يعترفون بِقُدرة الله الّتي أتَت لتُشفي الإنسان وتُخلّصه مِنَ العبوديَّة في شخص يسوع!
يَرد يسوع على فرضيَّة الفريسيين المُخادعة بالتأكيد على أنَّ القوّة الّتي يمتَلِكها، ضِدَّ الشَر، هي قوّة الله ذاتها، قد أُعطيَّت وتَجلَّت في كيانه! إنَّها علامة نهاية نظام الشيطان! إنَّها نهاية سيادة الشَر! إنَّه التَحرُّر الّذي مَنَحهُ الله في يسوع للبشريَّة ولِكُلِّ خليقة وللتاريخ كُلَّه! لقد تَمَّ بالفعل إنتظار هذا التحرير المُعلن عَنْه مِنْ خلالِ النبوءة اليهوديَّة العظيمة!
أخير يُعلن يسوع عن سبَب قيامه بهذه الإعجوبة “إعلان مَجيء مَلكوت الله في تاريخ البشريَّة”، ملكوت الله هو أقوى وأعظم مِنْ ملكوت الشيطان لهذا يقول الرَب يسوع: ” لا تَخَفْ، أَيُّهَا الْقَطِيعُ الصَّغِيرُ، لأَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ سُرَّ أَنْ يُعْطِيَكُمُ الْمَلَكُوت” (لوقا 12: 32). فلنَثبُت في عائلة الرَب يسوع ففيها فقط نَجد الراحة والتَحرُّر والسلام الداخلي.
بقلم : الأب سامي الريّس