زكريا وأهمية تقديم البخور أمام مذبح الرّب

بالنظر إلى الإعلان الملائكي لزكريا والظروف الّتي حدثَت فيه، لا يمكننا التَغاضي عن عُقم أليصابات الّتي ترتبط تَجربتها، مع تَطوَّر الأحداث، بتَجربةِ النساء الأُخريات في زمنِ العهد القديم: نتَذكَّر سارة زوجة إبراهيم، رفقة زوجة إسحاق، راحيل زوجة يعقوب، زوجة مَنوحُ (قضاة 13: 2)، حنَّة زوجة ألقانة (1 صموئيل 1: 2)، كلهم تغيرت حالتهم نتيجة تَدخُّل الله. وكان مِنْ بين هؤلاء النساء مَنْ استقبلن الزيارة لملاك يُعلن عن قُرب ولادة طفل (زوجة سارة ومنوح) ومنهنَّ مَن استجاب الله بعد صلاة منهم (راحيل وحنّة) أو بصلاة زوجها (رفقة) (تكوين 25: 21).

ستكون هذه البيانات مفيدة عندما نتَحدَّث عن شخصيَّة الكاهن زكريا الّذي “… أُلقِيَت القُرعَةُ، بحسَبِ التَّقليدِ المُتَّبَعِ عِندَ الكَهنَةِ، فأصابَتْهُ ليَدخُلَ هَيكَلَ الرَّبِّ ويَحرُقَ البَخور” (الآية 8).

في الواقع، في ذلك الوقت تَقرَّر إلقاء القرعة مِنْ 800 كاهن مِنْ فرقة أبّيا أنْ يكون له حَق تَقديم البُخور كُل يوم في الهيكل، أي في الغرفة الأُولى مِنْ بين الغرفتين اللتين تُشكِّلان قُدس الأقداس الّذي بداخلِهِ كان هناك مَذبح العطور. هكذا نقرأ في سفرِ الخروج: “فيَحرق عليه (المذبح) هارون بخورًا عطراً كُلَّ صباحٍ حين يُصلح السُّرُجَ، وعند غروب الشمس عندما يملأ هارون السُّرُجَ ويرفعه إلى مكانه، فيكون بخورًا دائماً أمام الرَّب مدَى أجيالكم”.

يجب أنْ يؤخذ في الاعتبار كلام الله لموسى بشأن البخور: “تأخذُ لك أفخرَ الأطيابِ: مِنَ المُرِّ السَّائِلِ .. ومِنْ القِرفة العَطِرة .. ومِنْ عودِ الطَّيبِ ومِنْ ثمر البانِ .. ومِنْ زيت الزيتون … كلها في أجزاءٍ مُتساوية. (…) لا تَصنعوا لأنفُسكم بخوراً مثله، بل يكونُ عندكم مُقدَّسًا لي أنا الرّبُّ. كُلُّ مَن صَنَعَ مثلَه ليتنشَّقه ينقطع من شعبه” (خروج 30: 22-38).

يَتِمُّ تقديم البُخور على مَذبحٍ مُخصَّص له، وإذا كان مصحوبًا تقديمة الذبيحة، فقد تّمَّ استبعاده من الذبائح (لاويين 5: 11 “لا يضع عليها البخور أو الزيت لأنَّها ذبيحة خطيئة”). حرق هذا البخور، إذن، يرمز إلى صلاة الشكر والعبادة لله الّتي لا يمكن أنْ تتلوَّث بالخطيئة، ولكِنَّها تشير إلى طهارة القلب، وهيَّ تقدمة فريدة مُخصَّصة فقط لخالق الإنسان وربه كما نقرأ في المزمور 141: 2: “لتكن صلاتي كالبُخور أمامكَ ورفعُ كفَّيَّ كتقدمة المساءِ”. وفي سفر الرؤيا لدينا إشارة أيضاً تتحدَّث عن البخور: “الّتي هيَّ صلوات القدِّيسين” (رؤيا 5: 8).

هذا البُخور، بالمعنى الّذي يحمله، لا يمكن إنتاجه للاستخدام الشخصي لأنَّه يرمز إلى موقف، ووجهة تخص الإله الوحيد الّذي لا يستطيع الإنسان أنْ ينافسه ويدرك هذه المادة لأغراض أُخرى غير العبادة. يُعاقب بالموت. كان تدبير القانون محكومًا بالمبدأ “فأزيلوا الشَّر مِنْ بينكم” (تثنية 13: 6). كان لدى الشرق العطور والبخور لاستخدامات مُتباينة، لكن بخورٌ واحد فقط، هو الّذي يحتوي على مكونات والمشار إليه في سفر الخروج، كان ملكًا لله.

إذا كان للبُخور صِلة بالصلاةِ والعبادة، فمِنَ المهم أنْ نقرأ ما ورد في سفر الخروج فيما يتَعلَّق بالمذبح الّذي يَتِمُّ حرقه عليه. هو مذبحٌ خاص لإحراق البخور هو مذبحٌ مقدّس  لهذا يقول الله للشعب: “لا تحرقوا عليه بخورًا دَنِساً ولا ذبيحةً ولا تقدمةً، ولا تصبّوا عليه سكيبَ خمرٍ” (خروج 30: 9). إنّها كلمات تساعدنا على فهمِ مَفهوم تقدمة الصلاة المسيحيَّة اليوم، والّتي لا يمكن أنْ تحتوي على تناقضات أو تنافر، الّذي يعرّضها للرفض، كما هو مذكور على سبيل المثال في صلاة الأبانا، عبارة: “اغفر لنا خطايانا كما نحن أيضاً نغفر لمن أخطأ إلينا”، وأيضًا في مثل العبد الّذي لا يرحم (متى 18: 21-35) والعناصر الأُخرى الّتي لفتَ يسوع انتباه الجموع إليها. وأيضاً ما نقرأه في رسالة يعقوب: “تَشتَهونَ ولا تَمتَلِكون فتَقتُلون. تَحسُدونَ وتعجزونَ أنْ تنالوا فتُخاصِمونَ وتُقاتِلونَ. أنتُم مَحرومون لأنَّكُم لا تَطلُبون، وإنْ طَلبْتُم فَلا تَنالون لأنَّكُم تُسيئونَ الطَّلبَ لرغبَتِكُم في الإنفاقِ على أهوائِكُم” (يعقوب 4: 2-3).

 البخور وأهميته في بدء الرسالة المسيحية 

كان لِتقدِمة هذا البُخور الفريد الّذي يُقدِّمه الكاهن غَرَضين: التأكيد على الصلاة وتقديمَتها للإله الواحد، رمزيَّـاً، إعلان ذبيحة المسيح الّتي ستُقدَّم له: “الّذي أحبنا وضحّى بنفسِهِ مِنْ أجلنا قرباناً وذبيحة لله طيِّبة الرَّائِحةَ” (أفسس 5: 2). وغرض ذبيحة المسيح هو: “ليُنقِذُنا مِنْ هذا العالم الشِّرِّير، عملاً بِمَشيئةِ إلهنا وأبينا” (غلاطية 1: 4).

قُدِّم البخور في الصباح في الساعة التاسعة، وبعد الظهر في الثالثة، صلاة النهار والمساء، كان يُقصد بها مَجيء المسيح المنتظر: الّذي سيأتي وقت يفقد فيه هذا القربان معناه، ويحل محله عطر مِنْ نطاق مختلف تمامًا نهائيًا، “ذبيحة الرائحة العطرة” التي كتب عنها بولس إلى المؤمنين في كنيسة أفسس.

الآن كان تقديم البُخور لزكريا، الّذي لم يكن قد بلغ الخمسين مِنْ عمره، كان تتويجًا لمسيرته الكهنوتيَّة. ويعتقد البعض أنَّ ظهور الملاك جبرائيل حدث أثناء المساء، مُستَنتجين ذلك مِنَ الحضور حيث يقول لوقا: “كانت جموع الشعب تُصلّي في الخارج عند إحراق البخور … وكانت الجموعُ تنتظرُ زكريا وتتعجّب من إبطائِهِ في داخل الهيكل”.

إذن، يظهر الملاك “على يمين المذبح”، في إشارة إلى السلطة والمكانة الّتي كان لها الملاك جبرائيل فيما يتَعلَّق بِفعلِ تقديم البخور. مذبح البخور، الّذي كان متوازي السطوح مِنْ خشب السَّنط المغطى بالذهب، كان النقطة الّتي يبدأ مِنْها تقديم القربان: المذبح الخشبي هو رَمز للإنسان، والبطانة الذهبية تُشير إلى سموّه بين المخلوقات. والبُخور المقدَّم، في تكوينه الثابت، كان رمزًا آخر للكمال، والصلاة الّتي يقبلها الله تمامًا. كان الملاك جبرائيل على يمين كُل هذا. ظهوره وحضوره لا يمكن أنْ يكون إلَّا شهادة تضاف إلى ما كان على وشك الكشف عنه.

ولما رأى الملاك الخوف الّذي إعترى زكريا، كما هو الحال في جميع قصص الكتاب المقدّس، هناك دائمًا رد الفعل هذا عندما يواجه الإنسان كائنًا روحيًا وقبل كل شيء مقدَّسًا، طمأنه على الفور بعبارة “لا تخف” الّتي تظهر في الكتاب المقدّس حوالي  365 مرة، أي على عدد أيام السنة. كانت الكلمات الأُولى، “لا تخَف” ، بالنسبة له، وبعد أنْ قيل له مباشرة إنَّ صلاته قد استُجيبت، لا سيما تلك المتعلِّقة بإنجاب ابن لأنَّ اليهود كانوا يخشون أنْ تنقرض عائلتهم مِنْ دون نسل، وفي الواقع، كان يُنظَر إلى عُقمِ المرأة على أنَّه لعنة.

ثم ينتقل الإعلان إلى شيء غير متوقع، وهو الاسم الّذي سيُطلق على الابن الّذي كان سيحصل عليه مِنْ أليصابات: يوحنا، والذي يعني “الله يعطي نعمة، الله يَحِن”، أو وفقًا للآخرين “سمع الله وأستجاب”، أو “الله يستَمع”، كُلها تَعابير كُتِبَت في العهد القديم. هنا لدينا حالة خاصة لأنَّ إعطاء الاسم للابن كان فعلاً يَخُصُّ الأب. لذلك كان ليوحنا المعمدان مُهمَّة مُحدَّدة بِغضِّ النظر عن إرادة الإنسان، واسمه، الّذي أمر به مِنْ العلي ولم يتم اختياره مِنْ قبل والده الطبيعي، يدل على رسم مهمته على أنَّها تهيئة للمسيح المنتظر والّذي اعلن عنه باستمرار، في كتابات العهد القديم.

بقلم: الاب سامي الريس

عن الاب سامي الريس

شاهد أيضاً

مواهب الروح القدس

هو روح الله الأقنوم الثالث في الثالوث الاقدس وقد ذكر هذا التعبير ثلاث مرات فقط …