“هوذا حمل الله”

لا يخبرنا الإنجيلي يوحنا شيئًا عن شخصية يوحنا المعمدان. فكل وصف لشخصية يوحنا المعمدان نجده في الأناجيل الثلاثة الأخرى. ولكن يقدم الإنجيل الرابع بعض الجوانب الخاصة بيوحنا المعمدان، على سبيل المثال، لا يعطِي له صفة المعمدان بل يُسمّيه فقط يوحنا. من هنا لا نجد ذكر لعماذ الرب في إنجيل يوحنا. لكن هناك صيغة مشابهة لقصة العماذ هو “وفي الغد رأى يوحنا يسوع مُقبلاً إليه” وفي إنجيل متى ومرقس نقرأ: “وجاء يسوع من الجليل إلى الأردن ليعتمد على يدِ يوحنا” بينما في إنجيل لوقا نجد: “ولمَّا تعمَّدَ الشعب كُلُّه تعمَّد يسوع أيضاً”.

ربمّا لم يُعلَن مشهد معمودية يسوع في إنجيل يوحنا كي يُركِّز ويظهر بصراحة ووضوح، أنَّ وظيفة يوحنا المعمدان هنا، هي بشكل أساسي الشهادة ليسوع. في الإنجيل بحسب يوحنا، إذا لم يوضع مشهد معمودية يسوع، إلَّا أنَّه يُشير إلى مشهد مشابه للمعمودية وهي دعوة يوحنا المعمدان الشعب إلى تباعة المسيح، فيقول: “ها هو حمل الله، الّذي يرفع خطيئة العالم” (يوحنا 1:  29). معرفة يوحنا هي أنَّه “رأى الروح ينزل من السماء”، إنّها نعمة عظيمة حين يبدأ الإنسان بالتعرُّف على المسيح. وفي الحقيقة هذه هي النعمة التي حصل عليها المعمدان: أن يكون قادرًا على التعرف عليه والإشارة إليه.

يشهد اليوم يوحنا المعمدان لحمل الله يسوع، الذي يرفع خطيئة العالم. وهذا هو جوهر إيمان الكنيسة. فنحن في كل الطلبات التي وضعتها الكنيسة تنتهي بطلبات: “يا حمل الله الحامل خطايا العالم”. بالتالي ما يقوله يوحنا المعمدان ليست كلمات شكلية بل هي شهادة حقيقية تمس كياننا الشخصي. فالبابا فرنسيس في إحدى كلماته بعد السلام الملائكي قال: “بالمعمودية، أنغمسنا في مصدر الحياة الذي لا ينضب وهو موت يسوع، أعظم عمل محبة في التاريخ كله؛ وبفضل هذه المحبة يمكننا أن نعيش حياة جديدة، لا تحت رحمة الشر والخطيئة والموت، بل في الشركة مع الله ومع إخوتنا”.

حمل الله الذي يرفع خطايا العالم. يجب أن نعود إلى التأمل في هذه العبارة التي تستخدم في الصلوات. فالإيمان المسيحي يعلم أن الله أصبح إنسانًا ليس فقط ليعيش بيننا، بل ليقدم حياته أيضًا من أجلنا. كانت هناك أشكال عديدة للتقدمة في العهد القديم. الذبائح والمحرقات والتكفير والقرابين والتعويضات. كان المعنى المشترك لهم هو إظهار تسبيح إسرائيل لله من خلال الأعمال المادية، والخضوع لسلطته، والتوبة عن الخطايا، والتذكر بالامتنان للبركات التي نالها من الله. وتمثل لفتة القرابين المختلفة هذه الجهود لإرضاء الله.

في إنجيل يوحنا، يسوع يتم تقديمه كضحية “الحمل”. الفرق هو أنه يدرك حقًا – ليس فقط بشكل رمزي – أنّه الذبيحة (المسؤول عن البشرية جمعاء) التي يجب تقديمها لإرضاء الله. يمكننا أن نسأل: كيف يمكن أن يتحمل يسوع خطايانا وظلمنا ووهب ذاته لأجلنا؟ كيف أنجز ذلك؟ هناك حقائق عميقة عن الإنسان وعن الله تحتاج إلى توضيح إذا أراد المسيحيون تجاوز اللغة الرمزية للحقائق المركزية لإيمانهم.

يمكننا أن نكتشف هذه الحقائق، بدءًا من الفرضيات المختلفة التي تمت صياغتها حول مرجع العهد القديم لتعبير “حمل الله”. سواء الحمل الذي أشار إليه المعمدان، الذي يعني حسب يوحنا الإنجيلي “حمل الفصح”، أو عبد يهوه المتألم الذي يُذكر في سفر إشعيا، أو الحمل الذي تُشير إليه رسالة يوحنا الأولى: “تعرفون أنَّ المسيح ظهر ليُزيل الخطايا … وإنَّما ظهر ابنُ الله ليَهدِمَ أعمال إبليس” (1 يوحنا 3: 5، 8).

“هنا حمل الله”. عنوان مشهور، ولكن إلى أي مدى يُفهم معناه؟ يشير مصطلح “الحمل” إلى “الحمل الفصحى”، الذي تم تقديمه كذبيحة في الهيكل، ثم تم تناوله في عشاء عيد الفصح، وهو عيد ليلي يتم الاحتفال به في العائلة اليهودية. لذلك فهو يستدعي تحرير إسرائيل من عبودية مصر وفوق كل شيء الخلاص المسيحاني، الذي كان الخروج منه رمزًا، أنَّه فصح المؤمن بالله: “هذه هي فُروضُ عيد الفصحِ: لا يأكلُ الغريبُ من ذبيحةِ الفصحِ. ولا يأكلُ منها العبدُ المُشترى إلاَّ إذا اختُتِنَ … في بيتٍ واحدٍ تُؤكَلُ ولا يَخرجُ من لحمها شيءٌ إلى الخارج، وعظمُها لا يُكسرُ منها” (خروج 12: 46). في الواقع، يؤكد يوحنا في رواية آلام يسوع على التفاصيل التي مفادها أن ساقيه لم تنكسر، وفي هذه الحقيقة يرى اكتمال الوصفة المتعلقة بالحمل الفصحي: “لن يُكسر له عظمٌ” (يوحنا 19: 36). إن رسالة الإنجيلي واضحة: يسوع هو حمل الفصح. أي أنه، بتضحيته، حقق التحرر النهائي للبشرية.

في إشعيا 52: 15 يقول: “الآن تَعجَبُ منه أُممٌ كثيرةٌ ويسدُّ المُلوكُ أفواههم في حضرته، لأنَّهم يرونَ غير ما أُخبِروا به ويُشاهدونَ غيرَ ما سَمِعوهُ”. عمل هذا “الحمل”، الذي يوصف في حد ذاته شخصًا عاجزًا وهشًا للغاية، هو عمل قوي: “إنه يرفع خطيئة العالم”. لقد تجلّت قوة الشر، في التمرد على الله، والعداء ضده، ورفض الله والقريب، في كومة متزايدة من الخطايا الشخصية والاجتماعية، مثل نهر ممتلئ يزداد تضخماً أكثر فأكثر ويبدو أنه لا شيء، لكنه في هذا  الإزدياد ربّما سوف لن يقدر الإنسان أن يُوقفه حين ينفجر: هذه هي “خطيئة العالم”، إنّها وقبل كل شيء عدم الإيمان بيسوع المسيح.

“حمل الله” – أي، الذي يخص الله، وليس الحمل الذي تقدمه البشرية له، ولكن الذي أعطاه الله للبشرية – يُزيل، ويُدمر، ويجعل خطيئة العالم تختفي، وبالتالي كل آثام العالم. العالم .. البشرية التي هي منفصلة عن الله .. كيف؟ بكلمته الّتي أوحاها، أي بقوة إنجيله، وقبل كل شيء بذبيحة حياته. عندما نستخدم كلمة “يرفع” يعني أيضًا “أنه يتولى المسؤولية، ويحمل على ذاته هذه المسؤولية”. فالمعمدان لم يذكر نوع الذبيحة، التي سيؤديها الحمل، ولكنه ركز على قوتها في كلمة: « يرفع» التي تشمل كل معنى الكفارة والغفران بل والصفح، بما يَنصَب على معنى رفع الأثر أيضاً . في هذه الحالة، سيحق لنا أن نُعلن مثلما أعلنَ إشعيا ويوحنا عن هوية المسيح: “لذلِكَ أُعطيه نصيباً مع العُظماء وغنيمةً مع الجبابرةِ بذَلَ للموتِ نفسَهُ وأُحصيَ مع العُصاةِ، وهو الّذي شفعَ فيهم وحملَ خطايا كثيرين” (إشعيا 53: 12).

رسالة المعمدان تدور حول التوبة وترك الخطيئة، هو يعرف أنَّ معموديته التي هي معمودية الماء يستحيل محو الخطيئة بالماء. لكنه يعلم أن الغسل بالماء لا يكفي إلا مع الذي سيغسل البشرية بالروح القدس، أنّه يشهد بأنَّ حمل الله الذي هو بلا عيب، بلا خطيئة هو مَن يهب الخلاص لأنَّ الروح القدس حلَّ عليه! يسوع هو الشخص الوحيد الذي يزيل الخطيئة وبالتالي الذي يُصالحنا مع الله، أي أنه يعيدنا إلى الشركة الكاملة معه ويمنحنا الطاقة لعدم ارتكاب الخطيئة مرة أخرى. ولا توجد خطيئة خطيرة لدرجة أن يسوع لا يستطيع محوها وتحويلها. إنه إعلان أنَّ “رحمة الله” هي أقوى من كل خطيئة وهيَّ التي تُجدِّد الإنسان بالمغفرة.

حتى اليوم يمكنه أن يعمل من أجل تحرير كل إنسان.  فالمعمدان يعلن عن شمولية عمل الحمل، كل الشعوب معاً ولهذا يستخدم كلمة «العالم» دون أن يحدد الزمن، لكي ينضوي الزمن تحت لواء عمل الحمل كل إنسان, مهما كان، في كل العالم. الصيغة التي قالها يوحنا المعمدان تتكرر بشكل ملحوظ في كل مرة نحتفل فيها نحن المسيحيون بالقربان المقدس. ندرك كجماعة مؤمنة في ذلك الخبز المكسور و “تظهر” القوة القادرة على مساعدتنا نحن الضعفاء حتى تظل تضحية المسيح وحياته فعالة فينا ولخلاصنا.

بقلم: الاب الدكتور سامي الريس

عن الاب سامي الريس

شاهد أيضاً

مواهب الروح القدس

هو روح الله الأقنوم الثالث في الثالوث الاقدس وقد ذكر هذا التعبير ثلاث مرات فقط …