يُعلن يسوع في نَصِّ الإنجيل هذا، وصول الخلاص الّذي وعَدَ بهِ الله، ويُعلن عن عالم قيَم الله، ويقلب موازين القيَم الإنسانيَّة ويُعلن الطريقة الّتي يُخَلِّص بها الله الإنسان. لا يجب أنْ تُقرأ التَطويبات للفقراء والوَيلات للأغنياء بمفتاحٍ أخلاقي، أي أنَّها لا تقول ما يجب على الإنسان أنْ يفعَله، بدلاً مِنْ ذلك، تُظهر ما يفعله الله مِنْ خلالِ يسوع وتكشف كيف يعمل الله في تاريخ البشريَّة. في نزول موسى مِنَ الجبل، كشَف الله للإنسان عن طريق الوصايا العشر ما كان عليه أنْ يفعله. في نزول يسوع مِنَ الجبل، يكشف الله ما يفعله. القصد مِنْ هذا الإعلان هوَ أنْ يكشف لنا وجه الله في المسيح. فيه نرى كيف يُعطينا الله ملكوته.
يُعطينا إنجيل اليوم أربع تطويبات وأربع ويلات (الهلاك أو الخزي) مِنْ إنجيل لوقا. هناك إعلان تدريجي في الطريقة الّتي يُقدِّم بها لوقا تعاليم يسوع. إلى 6: 16 يقول لوقا لمرات عديدة أنَّ يسوع علّم الناس، لكنه لم يصف مُحتوى التعليم (لوقا 4: 15، 31-32، 44؛ 5: 1، 3، 15، 17؛ 6: 6). الآن، بعد أنْ يؤكّد لوقا أنَّ يسوع يرى الجموع الّتي تَتوق إلى سماعِ كلمة الله، يخبرنا لوقا عن الخطاب العظيم الأول الّذي يبدأ بعباراتِ التعجب: “طوبى لكم أيها الفقراء” و “وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الأَغْنِيَّاءُ!” وهو يحتلّ باقي الأصحاح (لوقا 6: 12-49).
يسمي البَعض هذا الكلام “كلام السهل”، لأنَّه بحسب لوقا، نزل يسوع مِنَ الجبل وتوقف في مكان سهل حيث ألقى كلمته. هذه العِظة نفسها تُلقى على الجبل حسب الإنجيلي متى (5: 1) وتُدعى “العِظة على الجبل”. في متى، يوجد في الخطاب ثماني تطويبات تُحدِّد برنامج حياة الجماعات المسيحيَّة مِنْ أصول يهوديَّة. في لوقا، الخطبة أقصر وأكثر راديكاليَّة. تحتوي فقط على أربعة تطويبات وأربع ويلات موجَّهة إلى المجتمعات الهلِّنيَّة، المكونة مِنَ الأغنياء والفقراء.
لوقا 6: 20 ،طوبى للفقراء! قال يسوع وهو ينظر إلى التلاميذ: “طوبى للفقراء، لأنَّ لهُم ملكوت السَّماوات!” يُحدِّد هذا البيان الفئة الاجتماعيَّة للتلاميذ. هُم فقراء! ولهُم الملكوت، هذا وعد يسوع: “الملكوت لكُم!” إنَّه ليس وعدًا للمُستقبل. الفعل موجود. الملكوت مُلكاً لهُم بالفعل. هُم مُباركون حتّى الآن. في إنجيل متى، أوضح يسوع المعنى قائلاً: “طوبى للفقراء بالروح” (متى 5: 3). الفقراء هُم مَنْ لهُم روح يسوع لأنَّ هناك فقراء بِعقليَّة الأغنياء. تلاميذ يسوع فقراء بعقليَّة الفقراء. مثل يسوع، لا يريدون أنْ يراكِموا أشياء كثيرة في حياتِهم، بَل يتَحمّلون فُقرَهم ومعهُ يُناضلون مِن أجلِ تعايُش أكثر عدلاً، حيث توجد أُخوّة وتَقاسم الخيرات، دون تمييز.
لوقا 6: 21-22: طوبى للجياع والباكون الآن! في التَطويبة الثانية والثالثة يقول يسوع: “طوبى لكُم أيُّها الجياع الآن، لأنَّـكُم ستُشبَعون! طوبى لكُم أيُّها الباكون الآن، لأنَّكُم ستَضحكون!”. جُزء مِنَ الجُمل موجود في الحاضر والآخر في المستقبل. ما نَعيشَه الآن ونُعاني مِنه ليس نهائيَّاً. ما هوَ نهائي هو الملكوت الّذي نَبنيه اليوم بِقوَّة روح يسوع. إنَّ بناء الملكوت ينطوي على ألمٍ واضطهاد، ولكن هناك أمر واحد مؤكَّد: سيأتي الملكوت، و “سنَشبع ونَضحك!”
لوقا 6: 22: طوبى لكم عندما يكرهونكم! تشير الغبطة الرابعة إلى المستقبل: “طوبى لكُم إذا! افرحوا في ذلك اليوم، لأنَّ أجرًا عظيمًا لكم، … بكلمات يسوع هذهِ يُشجّع لوقا المجتمعات المضطَهَدة في عصرِهِ. المُعاناة ليست سكرات الموت، ولكن هيَ مثل آلام الولادة، مَصدر الأمل! كان الاضطهاد علامة على أنَّ المستقبل الّذي أعلنه يسوع قادم. وأنَّ المجتمعات بدأت تسير على الطريق الصحيح.
لوقا 6: 24-25: ويل لكم أيها الأغنياء! وَيْلٌ لَكم أيّها الَّذِين يَشْبَعُون الآن، ويلٌ لكم أيّها الضاحكون الآن”! بعد التطويبات الأربع لصالح الفقراء والمستَبعدين، هناك أربع تهديدات أو أربعة شتائم للأغنياء ومَنْ يرونَ أنفُسُهم بِخير ويَمتَدِحَهُم من الجميع.
التهديدات الأربعة لها نفس الشكل الأدبي المطابق للتَطويبات الأربعة. الأول في الحاضر. الثاني والثالث لهُما دور في الحاضر وآخر في المستقبل. والرابع يُشير تمامًا إلى المستقبل. توجد هذهِ التهديدات فقط في إنجيل لوقا وليس في إنجيل متى. لوقا واقعي أكثر في إدانته للظُلم.
قبل يسوع، لا يوجد أغنياء في السهل. فقط هناك فقراء ومرضى أتوا مِنْ كُلِّ مكان (لوقا 6: 17-19). لكن يسوع يقول: “ويل لكُم أيُّها الأغنياء!” لأنَّ لوقا، في نقلِ كلمات يسوع هذه، يُفكِّر أكثر في المجتمعات في زمانِهِ. فيها يوجد أغنياء وفقراء، وهناك تَمييز للفقراء مِنْ قِبَل الغني، وهو نفس الشيء الّذي ميَّز هيكل الإمبراطوريَّة الرومانيَّة. يسوع ينتقد الأثرياء بِقسوة ومباشرة: أنتَ غني، لقد تلقيت بالفعل العزاء! لكنَّك ستَجوع، الآن تضحك، لكنَّك ستُصاب وتَبكي! علامة على أنَّ الفُقر ليس موتًا ليسوع، ولا هوَ ثمرة الأحكام المُسبَقة، بل هوُ ثمرة الإثراء غير العادل مِن جانب الآخرين.
لوقا 6: 26: ويلٌ لكم أذا مدَحَكُم جميع الناس، وتحدَّثوا عنكم بشكلٍ جيّد، لأنَّه هكذا تعاملوا مع الأنبياء الكذبة. يشير هذا التهديد الرابع إلى أبناء أولئك الّذين مدحوا الأنبياء الكذَبة في الماضي. لأنَّ بعض السلطات اليهوديَّة استخدمت هَيبتها وسُلطَتها لانتِقاد يسوع.
بقلم: الاب الدكتور سامي الريس