لوقا 12: 16-21
إنجيل هذا الأحد يسلط الضوء على المشكلة الأساسية للإنسان، والتي تتضمّن معنى العمل والعمل في العالم، في بداية سفر الجامعة نقرأ كلمات قوية لا تبعث على الإطمئنان: “باطلُ الأَباطيل كل شيَءٍ باطِل. أَيُّ فائِدَةٍ لِلإِنْسانِ مِن كُل تَعَبِه الَّذي يُعانيه تَحتَ الشَّمْس؟ جيل يَمْضي وجيلٌ يأتي والأَرض قائِمَةٌ أَبَدَ الدُّهور” (الجامعة 1: 2-4). من الممكن أن نجد في المثل الوجه السلبي – أي لا داعي للعمل – لكن يسوع لا يقصد هذا أبداً، فالله عندما خلق الإنسان أعطاه الأرض كي يفلحها (راجع تكوين 2: 15)؛ بل يريد يسوع أن يوضّح الوجه الإيجابي للعمل في هذه الحياة “كي نغتني بالله”. الحياة هي هبة من الله وهي عطية حبه للإنسان، فإذا كان الله هو الذي أعطانا هذه الحياة، فكيف لا يعطي الطعام واللباس؟
أن رسالة يسوع ليست الإعلان بخصوص قضية العدالة الإجتماعية بقدر ما هي الكرازة بملكوت الله، كرازته كانت متمحورة في: على الإنسان الاهتمام بالغنى الروحي “الاغتناء بالله”. مع هذا نحن لا نستبعد هنا “العدالة الإجتماعية” في فكر يسوع، لاننا نعلم جيداً أن موقف الإنسان من الله مرتبط في الصميم بعلاقته مع الإنسان القريب (راجع مثل السامري الصالح). الإنسان لا يصبح “غنياً أمام الله” إلا بعطاءِه للآخرين.
لإظهار كيف أن هذا الموقف هو موقف خاطيء، يضيف الرب يسوع، كالعادة، مثل الغني الغبي الذي يعتقد أنه في أمان لسنوات عديدة، فلقد جمع ثروة كبيرة، حيث في نفس الليلة تطلب نفسه منه. يسوع يسمّي هذا الغني بالغبي أو الجاهل لأنه يعرف جيداً المزمور 14 الذي يقول: “قال الجاهلُ في قلبه: (لا إلهَ!)” (مز 14: 1) ولأنه يعرف أن السبب الأساسي في جهله هو أن الله اختفى تماماً من أفق هذا الغني، فهو لا يفكّر سوى بماذا يشرب وماذا يأكل، وكيف يعيش بترفٍ. أنه يخدع نفسه، لأن حياته ليست ملكاً له. جشعه جعله لا يُفكّر إلا بكيفية زيادة أمواله. هكذا الكثير من البشر يُصيبهم الغرور فيشعرون بأنهم “مقتدرين أو قادرين على كل الأمور، بكلمة أخرى جعلوا من أنفسهم آلهة تستطيع أن …”، ربما أحدى الأسباب التي تصيب الإنسان بمثل هذا المرض هي المال.
ليس الغنى بحد ذاته خطيئة لأن الغنى في الكتاب المقدس دليل على بركة الله للإنسان. لكن يصبح الغنى خطيئة عندما يعتقد الإنسان أنه بواسطة المال يستطيع الحصول على السعادة وطول الحياة. غني هذا المثل يصفه يسوع بالغبي لأنه استطاع أن يحسب كل شيء، ولكنه نسى الشيء الأهم ألا وهو ساعة الموت. فكّر بكل الأيام عدا اليوم الأخير. فكَّر بأنه سيد حياته ناسياً بأنه سيد أملاكه المكدّسة فقط.
يسوع ينهي المثل بعبارات: “فهكذا يَكونُ مصيرُ مَن يَكنِزُ لِنَفْسِهِ ولا يَغتَني عِندَ الله”. هناك إذن حل للخروج من هذه المشكلة: “كل شيء باطل”: يجب أن نكون أغنياء بالله. على ماذا تعتمد طريقة الغنى هذه؟ يفسّرُ يسوع فيما بعد في إنجيل لوقا نفسه بهذه الكلمات: “بيعوا أَموالَكم وتَصَدَّقوا بِها واجعَلوا لَكُم أَكْياساً لا تَبْلى، وكَنزاً في السَّمواتِ لا يَنفَذ، حَيثُ لا سارِقٌ يَدنو ولا سوسٌ يُفسِد. فحَيثُ يَكونُ كَنزُكُم يَكونُ قَلبُكم”. (لوقا 12: 33-34). فالسؤال يطرح نفسه هنا: هل هناك شيء نستطيع أن نأخذ معنا، ويتبعنا أينما ذهبنا؟ وحتى بعد الموت: ليست الأملاك، ولكن الأعمال، لا ما كان لدينا، ولكن ماذا فعلنا. أهم شيء في الحياة ليس ما لنا من الأشياء (بيوت، ….)، لكن أفعال الخير. فالخيرات التي نمتلكها تبقى هنا على الأرض لكن أفعالنا الصالحة هي التي ترافقنا وتأتي معنا.
هناك الكثير من مَن فقدوا الإيمان بالله في عالم اليوم من مختلف الأديان، ومعظمهم يقعون في نص سفر الجامعة، الذي لم يكن يعرف حتى ذاك الوقت فكرة وجود حياة ما بعد الموت. الوجود الأرضي حسب فكرة سفر الجامعة، به نوع من عدم الإهتمام بالحياة الإنسانية. مع مجيء المسيح تتغيّر كل الأمور. فلا يُستخدم مصطلح “باطل”، الذي يعطي نكهة دينية، ولكن مصطلح مشابه له “العبث”.
إنجيل اليوم يرشدنا إلى: كيف يمكننا أن لا نقع في هذا المنحدر. ستبدو الأيام جميلة ومقدّسة عندما ننهي فكرة التملّك فقط، أو فكرة الاستهلاك، واضعين عوض عنها فكرة الرب يسوع “أطلبوا ملكوت الله، وهو يَزيدُكم هذا كُلَّهُ” أي أن هذه الفكرة ستعطي لنا القوة لنفهم قيمة هذه الحياة. في الطقس اللاتيني هناك صلاة جميلة هذا نصّها: “علمنا، يا رب، لنستخدم بحكمة خيرات الأرض، متوجّهين دائما إلى الخيرات الأبدية”.
بقلم: الاب الدكتور سامي الريس