الأحد الأول من الصليب 2022

 لنبدأ بملاحظة تاريخية جغرافية. يظهر اسم كفرناحوم بشكل متكرر في العهد الجديد، في المرتبة الثانية بعد أورشليم. بالنسبة لمرقس، الذي استقي منه متى ولوقا أيضًا، فهي مركز نشاط يسوع في الجليل. حيث يقوم يسوع بالمعجزة الأولى، شفاء رجلٌ فيه روحٌ نَجِسٌ، على وجه التحديد في مجمع المدينة (مرقس 1: 21)، وبعد هذه الحادثة مباشرة يضيف الإنجيلي أن يسوع كان “في بيتهِ” في كفرناحوم (راجع مرقس 2: 1؛ 9: 33). ولكن متى هو الّذي يصف ذلك المكان بأنه مدينة يسوع: “بعد أن ركَبَ يسوع القارب، وعَبَر البُحيرة راجِعاً إلى مدينته” (متى 9: 1). في الواقع، هناك، كما قرأنا في الإنجيل، اختار يسوع أن يؤسِّس مَسكنه (“جاء ليعيش في كفرناحوم”)، الذي كان سابقًا في الناصرة “وجاءَ إلى مدينةٍ اسمُها الناصرة فسكَنَ فيها، ليَتِمَّ ما قالَ الأنبياء: “يُدعى ناصرياً” (متى 2: 23).    

لكن كفرناحوم، قبل كل شيء، كانت على مفترق طرق مختلفة. لم تكن بالتأكيد من المراكز الكبيرة والمأهولة بالسكان في الجليل، لكنها كانت تقع على طريق مهم يربطها بأهم الطرق ربّما بين دمشق والبحر الأبيض المتوسط​​، طريق البحر، ولهذا السبب كان من الممكن أنها تأوي مستوطنة للجنود (الرومان أو الهيرودسيين) هناك، حسب إلى ما نقرأه أيضًا في متى 8: 5.    

يسوع هو مواطن يعيش في قرية كبيرة، لكنَّه أيضًا مُتَجوّل كان عليه استخدام أسرع وسائل التواصل. بالإضافة إلى الطرق، كانت كفرناحوم مفتوحة على طريق عظيم وهو البحيرة، مصدر المياه النقيَّة للشرب، ونبع الأردن، والحياة. مثل العديد مِنَ القرى أو البلدات حول بحيرة طبريا، لا بد أن سكان كفرناحوم كانوا صيادين عن طريق التجارة: كان للقرية ميناء، وعُثر على عينات مِنْ خطافات الأسماك تحت أرضيَّة ما يُعتقد أنَّه منزل سمعان. في باحات المنازل، تمَّ العثور على مَكابس وأفران وحجَر الرُحى، مما يدل على وجود مدينة تعمل بِجدٍّ.   

إنجيل اليوم هو نبوءة قد تحقَّقت. لقد لاحظنا أنَّ متى يستخدم الفعل مرتين ليسوع، أولاً فيما يتعلق بالناصرة، ثم إلى كفرناحوم. في المرتين يربط الإنجيلي هذا التعبير بالنبوءة. يتحدث إشعيا الّذي قرأناه اليوم عن جليل مِنَ الوثنيين: في هذه الأرض، من غرباء وغير مؤمنين، وضع يسوع منزله. اسم هذه المنطقة (الجليل: “مجمّع الوثنيين”) – إنّها من مستوطنات الأجانب الّتي حدثت بعد السبي إلى بابل في القرن الثامن. لكثير مِنَ اليهود الّذين استقروا هناك – بالنسبة إلى متى فهذا يعني أكثر من ذلك بكثير.   

لم يأتِ يسوع مِنْ أجلِ شعبهِ فقط، بل مِنْ أجل كُلِّ الشعوب على وجهِ الأرض، ومِنَ الصواب أنْ تبدأ الكرازة بملكوت الله في مكانٍ رَمزي يسكنه أيضًا غير اليهود، ومُنفتح: كفرناحوم. لذلك لم تتوقع النبوءات خلاصًا حصريَّاً ومحدوداً لإسرائيل: بل حتّى للوثنيين، الأُمميين وغير المؤمنين اعتبرهم إشعيا مُتَلقّين لخلاصِ الله. وهنا يوحّد متى إلى الآيتين في 4: 15-16 في جماعة كنيسته، المجتمع الّذي يكتب الإنجيل مِنْ أجله: اليهودي والوثني. مِنْ ناحية، يكتب أنَّه بدون المسيا شعب إسرائيل والشعوب الاخرى هُم غارقون في الظلمة. المسيح يسوع هو النور المشرق لكُلِّ الأمم.   

من بين هؤلاء الوثنيين، نحن أيضًا، كنا غرباء مِنْ قَبل، ونحن الآن، شعب الله، المستنيرين بكلمتهِ والمتحدين برباطِ محبتِهِ، يمكن أنْ نصبح بدورِنا علامة للخلاص والأمل لجميع أولئك الّذين ما زالوا في الظلام.   

إنَّ تغيير العقليَّة، الّتي أعلنها يسوع بنفسِ كلمات المعمدان، هو شرط ضروري لقبول الملكوت الّذي ليس بعيدًا، بل اقترب. بدعوة لتَغيير العقليَّة، يسوع، دون الانتِقاص مِنْ فكرة التَحوّل الأخلاقي، يدعو قبل كل شيء إلى تغيير الرأي، أو الفكرة، أو بالمعنى الاشتقاقي، للذهاب “إلى ما وراء” طريقة “التفكير” المعتادة من أجل الترحيب بحداثة الملكوت. ومع ذلك، يجب أن ننتظر فترة أطول قليلاً لنفهم ما يعنيه يسوع المسيح بعبارة “ملكوت السَّماوات”.    

في الواقع، مصطلح “ملكوت الله” يحتل في إنجيل متى المركز الأول ويمكننا إيجاد ذلك في الفصل 13، حيث يتحدّث عن “أمثال الملكوت”، حتى وإن لم يتم شرح معنى الملكوت كثيرًا، ولكن بالأحرى يظهر من خلال الصور والرموز. بالنسبة للتلاميذ الّذين التقوا بيسوع، والذين تمت دعوتهم للذهاب خلفه، لم يتم إعطاء عناصر أخرى لفهمها، غير التباعة. واليوم يبدو أنَّنا نَسمع مرَّة أخرى ما كان يحدث تحت جبل سيناء، عندما تمت دعوة إسرائيل ليكون مُخلِصِاً للرب، وفي إبرام العهد معه، حتى قبل استلام التوراة، قال جميع الناس: “كُلُّ ما تكلَّمَ به الرّبُّ نعملُ به” (خروج 24: 7).    

مِنْ ثَمَّ تأتي قصِة دعوة التلاميذ أثناء عملهم، فتركوا قواربهم وتبعوه، مثلما دعا إيليا أليشع أثناء حرثه، والذي ترك الثيران: “فَذَهَبَ مِنْ هُنَاكَ وَوَجَدَ أَلِيشَعَ بْنَ شَافَاطَ يَحْرُثُ، وَاثْنَا عَشَرَ فَدَّانَ بَقَرٍ قُدَّامَهُ، وَهُوَ مَعَ الثَّانِي عَشَرَ. فَمَرَّ إِيلِيَّا بِهِ وَطَرَحَ رِدَاءَهُ عَلَيْهِ. فَتَرَكَ الْبَقَرَ وَرَكَضَ وَرَاءَ إِيلِيَّا” (1 ملوك 19: 19-20). تُظهر السرعة التي يستجيب بها التلاميذ الاهتمام الذي أثاره يسوع في أولئك الّذين التقوا به، أو ربما ببساطة، على سبيل المثال، لكيفية اللقاءات الّتي حدثت بين المعلم وتلاميذ المستقبل، حيث أنَّهم تركوا وظائفهم وعائلاتهم.   

في إنجيل متى، بدأ يسوع خدمته العامة بعد اعتقال يوحنا. وهذا بالفعل شيء غريب في حَدِّ ذاتِه. فعادة ما يحدث عندما تحدث أُمور سيئة لأشخاص شجعان، مثلما حدث في اعتقال يوحنا المعمدان، أنْ يتنامى الإحباط والخوف وترك الأُمور والقول: “الآن ليس هناك ما يجب القيام به”. بدلاً مِنْ ذلك، قرأ يسوع هذه الإيماءة بالعكس: “الآن يمكننا أنْ نبدأ”. يمكن أن يكون يسوع إنساناً شجاعاً في مثل هذا التصرّف؟ أم شخصاً مُتهوّراً يريد أن يُظهر بطولته؟ لا أعلم، لكنَّه أمرٌ رائع بالتأكيد: حتى اليوم هذا الناصري يحثنا على الاستمرار في النمو، ومواجهة تحدّيات نشر الملكوت، والإصرار من أجل خيرنا وخير الناس من حولنا، حتّى إنْ يكلفنا الكثير من الجهد.   

هذا ما فعله يسوع. أولاً بادرة يسوع هي السير، أي السير على الطريق. لا يسير مع هدف محدد في البداية. لكن هناك دوافع تحركه: إنَّه يفعل ذلك من أجلنا، من أجل الأشخاص الّذين سيلتقي بهم في طريقه، الشعب الجالس في الظلمة. أنّه يجهد من أجل أن يُقعنا بالحب.   

كتبت القديسة مادلين ديلبريل: «نحن في الشوارع واثقون جدَّاً من أننا نستطيع أنْ نحب الله طالما أنه يريد أن نحبه. لا نعتقد أنَّ الحُب شيء يلمع، لكنه شيء يُستهلك؛ نعتقد أنَّ القيام بكل الأشياء الصغيرة مِنْ أجل الله يجعلنا نحبه بقدر ما نحبه. مِنْ ناحية أُخرى، نعتقد أنَّنا على دراية سيئة للغاية بمدى أفعالنا. نحن نعرف شيئين فقط: الأول، أنَّ كل ما نقوم به لا يمكن إلا أنْ يكون صغيراً؛ والثاني، أنَّ كُل ما يفعله الله عظيم. وهذا يجعلنا هادئين في مواجهة العمل”.   

بقلم: الاب الدكتور سامي الريس

عن الاب سامي الريس

شاهد أيضاً

قراءات الجمعة الثانية بعد الميلاد

خروج 15 : 11 – 21 ، ارميا 31 : 13 – 17 من مثلك …