الكثير مِنْ الصائمين يحاولون بشكلٍ أو آخر إظهار صومِهِم للآخرين، وبالطبع، فإنَّ جَعل الصوم موضوعاً للتَباهي وكسب التقدير، وإبراز الزُهد بشكلٍ دائم، فيه مُخاطرة كبيرة، لأنَّ التقليد الكتابي يُحذِّرنا مِنْ أنْ نجعَلَه منظوراً، بل يجب أنْ يَتمَّ في الخفاء، في تواضع (متى 6: 1-18). لأنَّ الانسان الّذي يعمل شيئاً صالِحاً لمجرَّد الظهور هو مُرائي، لأنَّ عملهُ لم يكن بِنيَّة حسنة، قد تبد الأعمال صالحة، لكن الدَوافع جوفاء. فيصبح التباهي هو كُل مكافأتِهِ، بينما يكافيء الله المُخلصين في إيمانِهم وصومِهم. أنْ يكن الصوم لغرضٍ مُحدَّد: العدل، المُشاركة، مَحبَّة الله والقريب: “فالصَّومُ الَّذي أُريدُهُ. أن تُحَلَّ قُيودُ الظُّلمِ وتفَكَّ مَرابِطُ النِّير ويُطْلقَ المُنسَحِقونَ أَحْراراً، ويُنزعَ كُلُّ نيرٍ عَنهُم” (إشعيا 58: 6). هذا هو السبب في أنَّ التقليد الآبائي يوازي التقليد الكتابي في الغاية والحِكمة مِنْ الحاجة إلى الصوم لهذا نَجد هناك بعض العبارات الجميلة حول هذا الموضوع: أفرام السرياني “يصوم الفَم عن الخبز فليَصُم اللسان أيضاً لكيلا يتَحدَّث بأباطيل ويصبح صيامه باطلاً مثلما لا يُقبَل العسل المخلوط بالمرارة هكذا لا يُقبَل الصيام المقرون بالحَسد”.
يقول العلامة ابن العبري (1286+): “الصوم درجات ثلاث فهو عام، وخاص، وخاص للغاية. أمّا الصوم العام فهو أنْ يمتَنع الإنسان قطعيَّاً عن الأكل والشرب النهار كُلَّه، ويأكل الحبوب والبقول مساءً، أو يُمسِك عن أكلِ لحوم الحيوانات ومنتجاتها فقط وذلك نهاراً. ولهذا الصوم قوانين… لأنَّه قد يمتَنع الكثيرون عن الطعام عرضاً فلا يُعدّون بين الصائمين. أمّا الصوم الخاص فهو صوم المتَوحِّدين… والصوم الخاص للغاية، هو صوم الكاملين الّذين يَقرنون الصوم عن الطعام، وصوم الحواس، بصومِ النفس عن الأفكارِ الرديئة. والشرط الوحيد لهذا الصوم هو استئصال كُل فكر دنيوي مِنْ أعماق القلب. ورغمَ أنَّ بلوغ هذهِ الدرجة صَعب جداً لكِنَّه يُصبح أسهل بالتمرين كما قيل: والنفس راغبةٌ إذا رغّبتَها: وإذا تُرَدّ إلى قليل تقنعُ”. “الّذي يصوم عن الغذاء، ولا يصوم قلبه عن الحنق والحِقد، ولِسانه يَنطِق بالأباطيل باطل، لأنَّ صوم اللسان أخيَر من صوم الفم، وصوم القلب أخيَر مِنْ الاثنين” (مار اسحق النينوي). نعم، منْ أسَّس الحياة المسيحيَّة هيَّ المحبَّة، والصوم هو دائماً وأبداً وسيلة فقط. لكن الكنيسة تطلب، أنْ تكون مُمارسة الصوم مَع الوعي بأنَّ الجَسد يجب أنْ يتشارك مع الصلاة بجهدٍ كبير في مُحارَبة الإغراءات الّتي لا يمكن مُحاربتها في البُعد الفكري فقط.
إحدى طُرق الصيام، هيَ بِبَساطة المشاركة الفوريَّة في خيرات هذه الأرض الّتي تُمنح لنا حتّى تُصبح مُلكاً للجميع وليس للبعض؛ طريقة لإذكاءِ يَقظتِنا على حقيقة أنَّ الامتناع عن مُمارسة أفعال غير لائِقة، ليس فقط الإمتناع عن الطعام، ولكن أيضاً الإمتناع عن تَغذيَّة ذواتنا بالشرور، بل في اكتسابِ القيمة والقوّة في التَعمُّق بكلمةِ الله وعيش الشِركة مع الآخرين.
بقلم: الاب سامي الريس