أولاً: “سيفرح الكثيرون بميلاده”، هذه العبارة لا تشير كثيرًا إلى الفرح الّذي يجلبه وصول الطفل المرغوب فيه، أي فقط والديه والأقارب المتضامنون معهُما، بل كُل شعب إسرائيل الّذين كانوا يؤمنون بإعلان وصول المسيح الوشيك مِنْ خلالِ تعميدهم كشهادة على توبَتِهِم.
أنا مقتَنع أنَّه مِنْ بين هؤلاء “الكثيرين”، يَشمل جميع المكونات الروحيَّة، مِنْ ضمنها الملائكة السماويين، الّتي رأت مشروع الله يتَقدَّم نحو الهدف المثالي، وتأسيس أورشليم السماويَّة على الأرض والّذي سيَحدث بعد الهزيمة النهائيَّة للخصم المحتَل والوثنيين الّذين دنَسوا مدينة أورشليم، والدينونة الأخيرة، وظهور مَجد الله مثلما نقرأ في سفر الرؤيا: «وجاءَني أحدُ الملائِكَةِ السَّبعة الّذين معَهُم الكُؤوس السَّبعُ المُمتَلِئَةُ بِالنَّكباتِ السَّبعِ الأخيرة وقال لي: “تَعالَ فأُريكَ العروسَ امرأَةَ الحَمَلِ” فحَمَلَني بِالرّوحِ إلى جبَلٍ عَظيمٍ شاهِقٍ وأراني أورُشليمَ المدينة المُقدَّسَة نازِلَةً مِنَ السَّماءِ مِنْ عِندِ الله، وعليها هالَةُ مَجدِ الله» (رؤيا 21: 9-11).
عند قراءتنا الكتاب الأوّل لصموئيل، قد يكون مِنَ الصعب فَهم ألم حَنَّةُ بسبب عقمها. كعروس بسيطة، تساءلت عما إذا كان يمكن للمَرء أنْ يُعاني كثيرًا لعدم قدرته على إنجاب طفل. ثُمَّ تغيَّرت الأُمور، صلَّت إلى الله وطلبت أنْ يُعطيها ما تتَمنَّاه وحين أجابها الرّب قالت هذهِ الصلاة الرائعة: “بكَ، يا ربُّ تَهَلَّل قلبي وارتَفَع رأسي عالياً فَمي يَضحكُ في وجهِ أعدائي لأنَّي فرِحتُ بِخلاصِكَ لا أحدَ مِثلُ الرّبِّ لا قُدُّوسَ ولا خالقَ سِواهُ” (1 صموئيل 2: 1-2). طوال فترة الحمل كانت تبارك وتّحمد الرَّب وهذا ما يجب أنْ تفعله كُل النساء.
في بداية سنتِنا الطقسيّة بدأنا بِقراءة نص إنجيل لوقا، ومِنْ هذا النَص نَفهم ألم إيلصابات لِعَدم قدرتها على إنجاب الأطفال. كيف تحتَمل المرأة عدم وجود حياة في بَطنِها، وعدم قدرتها على حملِ ثمرة المحبَّة بين الزوج والزوجة بين ذراعيها؟ هِبة الحياة هيَّ مُعجزة حقيقيَّة، كُل شيء يأتي مِنْ بذرة صغيرة ثم يصبح كائنًا مثاليًا لدرجة أنَّه في كُلِّ مَرَّة نَنظر إليها نَنذهل ونتَعجّب مِنْ نِعمَة الخلق هذهِ.
هكذا يجب أنْ تُدرك العوائل كم هو عظيم إلهنا، وكم هو مثال رائع لنا. فدعوة لنا أنْ نكون مُمتَنِّين له على هذا الفرح العظيم الّذي أراد أنْ يمنحنا إيَّاه. فَعلى الزَّوجين أنْ يُشاركا في حياتِهما يومًا بعد يوم نعمة الفرح هذه مُرتلين هذا المزمور: “حقَّاً صنعَ الرّبُّ معنا صنيعاً عظيماً وصِرنا فرحين” (مزمور 126: 3).
ثانياً: “سيكونُ عَظيماً في نَظرِ الرَّب”، وهو وصف لِشخصيَّة يوحنا وعمله وعلاقته بالمسيح، ناهيك عن أنَّه سيتَقدّس بالروح القُدس وسيقود حياته التَحضيريَّة في الصحراء: “وكانَ الطِّفلُ ينمو ويتقَوَّى في الروح وأقام في البرِّيَّة إلى أنْ ظهَرَ لِبَني إسرائيل” (لوقا 1: 80). كما أنَّ تقدير يوحنا المعمدان في عَيْنَي الرَّب يتركَّز في شَخصيَّتِه أولاً، وهذا ما عبَّر عنه المسيح بأقوى تَعبير، عِندَ وصفهِ للمَعمَدان والّذي يكشف عن مَدى مَعرفتِهِ بشخصيَّته، عندما قال: “ماذا خَرَجتُم إلى البرّيَّةِ تَنظرونَ؟ أقَصَبةٌ تَهُزُّها الرَيحُ؟ بل ماذا خَرَجتُم لتَروا؟ أَرَجُلاً يَلبَسُ الثّيابَ الناعِمَة؟… خَرجتُم تَنظُرونَ؟ أنبيَّـاً؟ أقولُ لكُم، نعم، بل أفضلُ مِنْ نَبيٍّ! أقولُ لكُم: ما وَلَدت النِّساءُ أعظمَ مِنْ يوحنَّا” (لوقا 7: 24-28).
سيَتم الكشف أيضًا عن “العَظمة” الّتي يتَحدَّث عنها الملاك كتصرّف خارجي، مِنْ خلالِ “عدم شربه خَمراً ولا مُسكّراً”، بهذهِ الكلمات يُبَلِّغ جبرائيل زكريا أنَّ ابنه سيكون نذيرًا، أي شخصًا مُكرَّسًا، رَمزًا حيَّاً للقداسة سيواجه كُل رموز الخطيئة. عند التفكير في النذير بِشكلٍ عام، يجب التأكيد على أنَّه إذا كان الانفصال عن الآخرين طوعيَّاً ومؤقتًا، لكان ذلك بالنسبة ليوحنا حالة ثابتة في حياتِهِ “مِنْ بطنِ أُمِّهِ” كما كان الحال مع شمشون: “وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ صُرْعَةَ مِنْ عَشِيرَةِ الدَّانِيِّينَ اسْمُهُ مَنُوحُ، وكانت امْرَأَتُهُ عَاقِراً. فَتَرَاءَى مَلاَكُ الرَّبِّ لِلْمَرْأَةِ وَقَالَ لَهَا: «أَنْتِ عَاقِرٌ، لكِنَّكِ تَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْنًا. وَالآنَ فَاحْذَرِي لا تَشْرَبِي خَمْرًا وَلاَ مُسْكِرًا، وَلاَ تَأْكُلِي شَيْئًا نَجِسًا. فَهَا إِنَّكِ تَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْنًا، شَعرُهُ لا يُقَصُّ، لأَنَّه يَكُونُ نَذِيرًا للهِ مِنْ بَطنِ اُمِّهِ، وَهُوَ يَبْدَأُ بِخَلاصِ إِسْرَائِيلَ مِنْ يَدِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ” (قضاة 13: 2-5). ومع صموئيل: “وَبَعدَ تَناوُلِ الطَّعامِ وَالشَّرابِ، قامَتْ حَنَّةُ بِهُدُوءٍ وَذَهَبَتْ لِتُصَلِّيَ إلَى اللهِ. وَكانَ الكاهِنُ عالِي جالِساً عَلَى كُرسِيٍّ عِندَ بابِ هَيكَلِ الله. فصلَّت إلى الرّبِّ بِمَرارَةٍ وبَكَت. وَنَذَرَتْ نَذْراً وقالَتْ: «أيُّها الإلَهُ القَدِيرُ، انظُرْ مَدَى حُزنِي وَالتَفِتْ إلَيَّ. لا تَتَجاهَلْنِي أنا خادِمتَكَ. فَإنْ رَزَقْتَنِي بابْنٍ، فَإنِّي سَأُعِيدُهُ لِيَكُونَ فِي خِدمَتِكَ كُلَّ أيّامِ حَياتِهِ. لَنْ يُقَصَّ شَعْرُهُ، وَلَنْ يَشرَبَ نَبيذاً ولا خَمراً، لأنَّهُ سَيَكونُ لَكَ نَذيراً” (1 صموئيل 1: 9-11). لذلك كان يوحنا المعمدان هو ثالث نذير في تاريخ إسرائيل.
مُصطَلح نَذير يعني “المختار”، “المكرَّس”، “المنفَصل”. كانت هناك فئتان مِنْ هذا النَذير: النذير بالاختيار الحُر، والنذير الّذي أصبحَ نذيراً بالتدخل الإلهي. يمكن للإنسان (رجل أو امرأة) أنْ يقطع نِذراً خاصَّاً للرَّبِّ ليعيش نذيراً لفترة مِنَ الزمن. لكن في الكتاب المقدَّس أولئك الّذين تعهدوا أنْ يكونوا نَذيرين كان عليهم أنْ يخضعوا لثلاثة قيود أساسيَّة: لا يُمكِنُهم شُرب الكحول أو استهلاك أي مُنتَج مِنَ الكرمة، ولا يُمكنهم قَص شَعرهم ولا يُمكنهم لمس الجثَث. ظلَّ النَذيرون الّذين عينهم الله هكذا طوال حياتهم، وكان يهوه هو الّذي حدَّد ما هو مَطلوب مِنْهم إقرأ نَص (سفر العدد 6: 2-7).
ثالثاً: “يمتلئ بالروحِ القُدس وهو في بَطنِ أُمِّه” وكونَه لم يَشرب خَمراً ولم يَذُقْ مُسكراً فهو لأنَّه نَذَر نفسه لله وكرَّس حياته لخدمَته مُنذ شبابه، فإنَّه عِوَض الخمر يقول الملاك إنَّه يَمتلئ مِنْ الروح القُدس وهو في بَطنِ أُمِّهِ. فقد حدث ذلك بالفعل لمَّا دخلَت مَريم القدّيسة وهيَّ حامل بالرَبِّ في بَطنِها وأعطت السلام لأليصابات، فأصاب السلام الجنين في بطنِها أيضاً وهو يوحنا. فهوَ في قبوله الروح سيُقاوم كُل ما يَثبط المَلَكات العقليَّة (الشهوات الجسديَّة).
وكان واضحاً من وصف الرّب ليوحنا في (لوقا 7: 24-28)، ومِنْ خلالِ نِعمة الروح القُدس، أنَّ يوحنا كان ذا شخصيَّة قويَّة، حازماً وشجاعاً، وكان ناسِكاً فقيراً نذيراً للرَّب يُطيلُ شعره حسب القانون(عدد 5:6)، “وكان يَلبَسُ ثَوباً مِنْ وبَرِ الجمال، وعلى وَسطِهِ حِزامٌ مِنْ جلدٍ(مرقس1: 6) فمَنْ غيره في كُل شخصيَّات العهد القديم، استطاع أنْ يقول للفرّيسيين والصدّوقيين الّذين جاءوا ليَعتَمدوا مِنْه: “يا أولادَ الأفاعي، مَنْ علَّمَكُم أنْ تَهربوا مِنَ الغَضَب الآتي” (متى 7:3). ولم يَقُمْ نبيٌّ استطاع أنْ يوبِّخ مَلكاً في وجهِهِ وأنْ يقول له لا يَحِلُّ لكَ!! كما فعل يوحنا المعمدان مع الملك هيرودس عن خطيئته: “لا يحِلُّ لكَ أنْ تتَزوجها” (أي أنْ يتزوَّج مِنْ امرأة أخيه فيلبس) (إقرأ القِصّة في إنجيل متى 14: 1-12). لقد إستفاد يوحنا المعمدان مِنْ هِبة الروح القُدس في إتمام المهمّة الّتي أوكلت إليه مِنْ وحي الملاك جبرائيل.
كما أنَّ يوحنا تنبّأ عن قُرب ملكوت الله كما رآه بالعيان، وافتتح الطريق إليه ومهَّدَ لهُ بتَعليمِهِ وصراخه.
رابعاً: “يهدي كثيرين مِنْ بني إسرائيل إلى الرّبِّ إلهِهِم”.
كلمة يهدي أو » يَردُّ «هنا تعني “يُغيِّر ويُرجع الخُطاة إلى الله بالتوبة”، والتوبة في العبرية تعني التَغيير مِنْ عبادة الأوثان إلى عبادة الرَّب إلهِهِم. كما يُعتبر يوحنا مجدِّداً أخلاقيَّاً وهو ما أشار إليه ملاخي النبي، قالَ الرّبُّ القديرُ:» ها أنا أُرسِلُ رسولي فيُهيِّيءُ الطريقَ أمامي، وسَرعانَ ما يأتي إلى هَيكلِه الرّبُّ الّذي تَطلبونَهُ ورسولُ العَهدِ الّذي بهِ تُسَرُّون « (ملاخي 3: 1). ومعروف أنَّ هذا كان عمل إيليا النبي سابقاً.
إذن رسالة يوحنا ستُركِّز على التوبة، وعلى تغيير طريقة التفكير في ضوءِ مَجيء يسوع، كما يقول الإنجيلي مرقس: “ظهر يوحنَّا المعمدان في البريَّة يدعو الناس إلى معموديَّة التوبة لمغفرة الخطايا. وكانوا يخرجون إليه من جميع بلاد اليهودية وأورشليم، فيُعمّدهم في نهر الأردن، معترفين بخطاياهم” (مرقس 1: 4-5). العلامة أوريجينوس يقول: «أنَّ العالم في حاجةٍ مُستمرَّة إلى عمل يوحنا الذي يسمِّيه “سِر يوحنا” ليدخل بِكُلِّ نَفسٍ إلى الثبات في المسيح، إذ يقول: [اِعتقد مِنْ جانبي أنَّ سِر يوحنا لا يزال يتَحقّق إلى يومنا هذا، فيستطيع الإنسان أنْ يؤمن بيسوع المسيح إنْ كان له روح يوحنا وقوَّته في نفسِهِ، هذا لكي يُعِدَّ شعبًا كاملًا لربِّنا، وإنْ كان له الخشونة ويسلك الطريق الضيّق… إلى اليوم روح يوحنا وقوَّته يسبقان مَجيء الرَّب يسوع]».
خامساً: “ويسير أمام الله بروح إيليا وقوَّته”، وهذا المصطلح يفيد تهيئة اتجاه عمل وفكر يوحنا المعمدان كسابق للرب يُعِدُّ الطريق أمامه: ” وأنتَ أيَّها الطّفلُ، نَبيَّ العليِّ تُدعى، لأنَّكَ تتَقدَّمُ أمامَ وَجه الرّب لتُهيّيءَ الطَّريقَ لَه وتُعَلِّمَ شَعبَهُ أنَّ الخلاصَ هوَ في غُفرانِ خطاياهُم” (لو 1: 76-77). وقول الملاك: “ويسيرُ أمامَ اللهِ” هيَّ إشارة الملاك إلى أنَّ المسيح هو “الرّب الإله” بالنسبة لِشعبِه.
كما أنَّ قوله: يسير أمامه أي » يتقدَّم «هنا يعني يسير أمامه على الأرض، وهي إشارة واضحة لتجسُّد الرب الإله ومسيرته على الأرض. وعمل يوحنا يشبه عمل إيليا بالنسبة ليهوه الرَّب الإله وسط الشعب، أي أنَّ نفس فكر وعمل إيليا يكون ليوحنا المعمدان. كما أنَّ القول “ويسيرُ أمامَ اللهِ: يُشير أيضاً إلى الإرادة والرغبة بالعمل جنبًا إلى جنب مع القوَّة، والعمل الّذي كان إيليا قد أثاره كنبي ومُصلح ديني في إسرائيل ربما في أصعب أيام حياته التاريخيَّة، عندما استبدل أحآب وزوجته إيزابل عبادة يهوه بِعبادةِ البَعل (إقرأ هذه القصّة في الفصل 21 من سفر الملوك الأوّل). وهنا لابُّد مِنْ ذكر نَص ملاخي والّذي يُشير أيضاً إلى صفة يوحنا المعمدان الّتي أعلنها الملاك جبرائيل: “ها أنا أُرسِلُ إليكم إيليَّا النبي، قَبلَ أنْ يجيءَ يوم الرّبَّ العظيم الرَّهيب”، الكلمات التي شرحها يسوع بعبارة أخرى حين قال:”فإلى أنْ جاءَ يوحنَّا كان هناك نُبوءات الأنبياء وشريعة موسى. فإذا شئِتم أنْ تُصدّقوا، فأعلموا أنَّ يوحنا هو إيليا المُنتظر” (متى 11: 13-14). وبالتالي وحتماً روح إيليا وقوّته قد أُعطيت ليوحنا مِنَ الله في ذلك الزمان، بمعنى أنَّ يوحنا المعمدان هوَ بالضرورة إيليا عائداً مِنْ السماء.
سادساً: “ليُصالح الآباء مع الأبناء ويُرجع العُصاة إلى حكمة الأبرار”. أنَّها رسالة ربّانيَّة تُطبّق ما ورد في الوصيَّة الرابعة مِنْ وصايا الله. هنا واضح أنَّ مُهمَّة المعمدان هيَّ إعداد “الأُسرة” بروح الأُبوَّة للآب، الَذي يَحنو على أولادِهِ ويتَعهَّدَهم بالأخلاق والسلوك، حتّى يَقبلوا عطيَّة الله الآب كأبٍ للأُسرة البَشريَّة كَكُل في شخصِ ابنه يسوع المسيح. فإعداد الأُسرة عماد الإيمان بالله والمسيح. وفي أصل النبوَّة عند ملاخي يوجد أيضاً أنْ يَردّ قلوب الأبناء إلى آبائهم، وهنا الرباط الأُسري يبلغ مدى قوّته وإعداده بروح المسيح ابن الله. فانعطاف الآباء على الأبناء وانعطاف الأبناء على الآباء هو عماد قيام شعب مُستعد لِقبول روح التَجديد والدخول في مَخافة الله ثُمَّ مَحبته.
لكن في سفر ملاخي تأتي الوصية بصيغة التهديد: “فيُصالح الآباءَ مع البنين، والبنين مع الآباء، لِئلاَّ أجيءُ وأضربَ الأرضَ بالحِرمانِ” (ملاخي 3: 24). وهنا نرى تعبير عن المفهوم الّذي بموجبِه يعني تخصيص رسالة يوحنا والاعتراف بأنَّه لا يوجد بديل آخر سوى التوبة، لتَغيير طريقة التفكير والتَصرف بِشكلٍ مُستَقل عن حقيقة كونِنا آباء أو أبناء: “توبوا، لأنَّ ملكوتَ السَّماواتِ اقترب” (متى 3: 2) هيَ رسالة تتَعلَّق بجميع البشر لا فقط المؤمنين بل كُل البشريَّة.
أمَّا عودة العُصاة إلى فكرِ الأبرار، فهو عودة روح الأُسرة سواء آباء عُصاة أو أبناء عُصاة، هؤلاء يختصُّهم الله بنوعٍ خاص جداً مِنْ التَعامل الداخلي الّذي يَسكبه الله بالنعمة في قلب المعمدان، ليجتَذبهم إلى فكرِ الأبرار سواء بالإغراء أو بالتخويف. وقد حمل المعمدان عوامل الأثنين، فبقامته المديدة وشعره المُسْتَرسِلَ ووجهه الذي لَفَحَتْه الشمس، وثوبه المصنوع مِنْ وبَرِ الجِمال، وحزام الجلد الّذي على وسطهِ، كان هذا مُعزياً أشد العزاء للنفوس الجامحة، مع كلماته القويَّة وتوبيخه المريح للنفس العاصيَّة، كُل هذا بلا شك جذب النفوس العاصيَّة. فلقد نجح المعمدان في أنْ يجمع الأُمة مِنْ أقصاها إلى أقصاها “تَعمَّدَ الشَّعب كُلُّهُ” (لوقا3: 21)! على كلمةِ التوبة لقبولِ مَغفرة الخطايا تمهيداً لمحوها!!
سابعاً وأخيرًا: “يُهيِّئ للربِّ شعباً مُستعدَّاً له”: مِنْ خلالِ وعظه، بمعموديَّة التوبة، كان يوحنا قد أعد الناس للتَعرّف على مسيح الله، شخصيَّاً أشار إليه بالقول: “ها هو حمل الله الّذي يرفع خطيئة العالم” (يوحنا 1: 29). مِنْ هنا نَجد حقيقة أنَّ شعب إسرائيل، وما كتب عنه في الكتاب المقدّس هو الشعب الحقيقي مكوّن مِنَ الجميع لا فقط فئة مُعيّنة بل هو كُل مؤمن بكلمة يهوه. وسيتَجدَّد هذا الشعب مِنْ أولئك الَذين ينتمون إليه، قبلوا مَجيء حمل الله إلى الّذين قبلوه وأصبحوا ابناء الله كما يقول يوحنّا الإنجيلي: “أمَّا الّذين قبلوهُ فأعطاهم سُلطاناً أن يصيروا أبناء الله. وهُمُ الّذين وُلدوا لا مِنْ دمٍ ولا مِنْ رغبة جسدٍ ولا من رغبة رَجُلٍ، بل مِنَ الله” (يوحنا 1: 12-13).
ولكن، في عصرنا هذا الّذي تعمل فيه النعمة، فقد أغنانا الروح القُدس عن النذير والشكل واللبس والصوت الصارخ والفأس الموضوعة على أصل الشجرة. فهو الذي يتبرَّع بالحديث مع القلوب بكل أشكالها، والأرواح البشريَّة بِكُلِّ قاماتها، فبالصوت الواحد والكلمة الواحدة من على مَنبر النِعمة يأتي الروح ليتبناهم، ويُطعِمهم مِنْ لحم الحمل ويَسقيهم مِنْ دم ابن الله، لتتحوَّل البشريَّة كلها عن كُل أشكالها وألوانها لتَصير بِشكلِ الابن الوحيد في القداسة والحق!!
بقلم: الاب الدكتور سامي الريس