الأحد الثاني من الدنح

قرأنا اليوم الفصل الأول من إنجيل يوحنا والذي يُعتبر كمقدمة لكل ما يحتويه الإنجيل من معانٍ غنيّة باللاهوت.  

حسب الإنجيلي يوحنا هذه المقدمة هي إنشودة التسبحة لعمل الله في العالم: من بدء الخليقة (راجع تكوين 1: 1) إلى مجيء الله نفسه إلى العالم حين أخذ جسداً بشرياً ودخل إلى العالم من خلال كلمته (لوغوس). هذا النص عبارة عن قوة من النور، إنه سلسلة من الزخارف التي تحمل علامة، تشير إلى كيف أراد الله أن يدخل التاريخ ويصبح إنساناً يعيش بيننا نحن البشر. من المستحيل أن نقوم بتحليل الفكر اللاهوتي للقديس يوحنا في هذه الكرازة، فالموضوع يتطلّب الكثير من الوقت، لذلك سنستمع فقط إلى بعض الكلمات التي تُغْني هذه الإنشودة.  

من البداية، يجرؤ الإنجيلي على أنْ ينظر في عمق الأبديّة، وهو فضاء زمني مستحيل علينا نحن البشر أن نفهمه تماماً، كوننا خليقة ضعيفة للغاية وعابرين في هذا العالم.  

في البدء، أي قبل إنشاء الكون (العالم)، كانت الكلمة موجودة خارج الزمن، في الأبديّة. كان كلمة الله، يتّجه نحو الله، كان الله نفسه. لكن هذه الكلمة الإلهيّة، التي تُحيط بها الحياة كانت في حركة نشوة أرادت أن تعطي نفسها، وأرادت أن تخرج من نفسِها، وهكذا خلقت الكون. على وجه التحديد كلمة الله، التي خرجت من الله والمصحوبة بنفحة الله، والتي لا يمكن فصلها عنه (راجع سفر التكوين 1: 2-3) – مثلما يمكن رؤيته أيضاً من التشابه مع الفعل الإنساني للتحدّث، تتحد النفس والكلام بفعل لا ينفصم – بدأ الخلق، وأظهر الحياة والنور القادر على التغلب على الظلام: الظلام، في الواقع، كان يقاوم، لكنه لم ينج ولن يتمكن أبداً من إيقاف هذا النور والإنتصار عليه.  

لكن هذا الخروج، لم يُبعد كلمة الله من الله نفسه في الخلق، التي لم تنته في الواقع. ولكي نتّحد أكثر فأكثر مع الخلق، أراد هذا الكلمة الذي كان يُعطى لآدم، للإنسان، أن يُصبح جسداً بشرياً بنفسِهِ، أراد أن يكون أحد أبناء الأرض آتٍ من الأرض. هكذا دخل في الزمن ونصب خَيمَتِهِ (سَكَنَهُ) بيننا في إنسان مولود من امرأة ومن نَفحة إلهيّة: يسوع الناصري.  

الكلمة الذي كان خارج الزمن أصبح ضعيفاً ومائتاً، إنسانٌ يمكن رؤيته وسمعه ولمسه “الذي كان من البدءِ، الذي سَمِعناه ورَأيناهُ بعيونِنا، الذي تأمَّلناه ولَمَسَتهُ أيدينا من كلمة الحياة” (1 يوحنا 1: 1). كان هناك مثل الهبوط التدريجي لكلمة الله إلى العالم “كلَّم الله آباءَنا من قديم الزمان بلسان الأنبياء مراتٍ كثيرةً وبمختلف الوسائل” (عبرانيين 1: 1)، من خلال كلمة موجهة إلى إبراهيم، أُعطيت لموسى، نزلت على الأنبياء؛ الكلمة الذي أخذ مسكناً في إسرائيل مثل الحكمة؛ كلمة كوجود، مسكن الله في قدس أقداس الهيكل.  

لكن في يسوع كلمة الله هذه لم تكن فقط موجَّهة إليه فقط، أو مُقيمة فيه، بل أصبحت “الكلمة صار جسداً” الذي به: “في هذه الأيام الأخيرة كلّمنا بابنه الذي جعله وارثاً لكل شيء وبه خلق العالم. هو بَهاءُ مجد الله وصُورةُ جوهرهِ، يحفظُ الكون بقوة كلمته” (عبرانيين 1: 2- 3). “فلمَّا تَمَّ الزَّمان” (غلاطية 4: 4)، “وبينما هما في بيت لحم، جاء وقتُها لِتَلد” (لوقا 2: 6)، إذن حضور الله هو حضور إنساني، ويسوع الناصري هو إنسان حقيقي تماماً مثلنا، “ابن آدم” حسب نص نسب يسوع (لوقا 3: 38).  

منذ ذلك الوقت، من دخول يسوع في رحم مريم، الله هو إنسان والإنسان هو الله! هذه هي الطريقة التي يحدث فيها التبادل المثير للإعجاب كما يقول أحد النصوص الليتورجيّة القديمة “يا لروعة التغيير! الذي خلق الإنسان، يأخذ حياة الإنسان ويولد من العذراء، لم يولد من رجل، يأتي إلى العالم ويعطينا حياته الإلهيّة”؛ هكذا حدث الوحي الكامل لإله إبراهيم وإسحق ويعقوب في جسدنا. هكذا أُعطي الله لنا، أعطى نفسه للبشرية، وحّد ذاته مع الخليقة، لأنَّه خلقها من الحب، والحب لن يفشل أبداً، لكنَّه دائم التجدد عبر التاريخ. وحياة يسوع – كما فهمها الإنجيلي الرابع جيداً – ستكون تفسيراً لما تمَّ الإعلان عنه هنا في المقدمة: يسوع هو حياة العالم (راجع يوحنا 11: 25)، إنَّه “نور العالم” (يوحنا 8: 12)، إنَّه قِصَّة وحي الله الذي لم يره أحد من قبل، كما تنتهي كلمات المقدمة.  

لكن الله الذي يُنكِر ذاته ليحب من هو خارج عنه، والله الذي يُظهِر نفسه على أنَّه مائت أيُّ إلهٍ هذا؟ يمكننا أن نسأل أنفسنا. هذه هيَّ عَثْرة التجسد، التي كانت دائماً أصعب حقيقة يمكن تصديقها، في كل الأزمنة والأوقات، حتى من قبل المسيحيين أنفسهم. ما الذي لم يفعله المسيحيون في هذين ألفي عام لإخفاء الإنسانيّة الحقيقيّة ليسوع المسيح! لقد حرموه من حياة إنسانيّة، وحرموه من الإيمان، وحرموه من القيود النفسيّة، وأفرغوه من ضعفه وموته ليجعلوه مساوياً للآلهة. البشر الذين يبحثون عن الله ليلمسونه ولكن لا يستطيعون إيجاده ولا معرفته. هذا ما بشّر به القديس بولس في أثينا عندما وجدهم يعبدون الإله المجهول: “حتى يَطلُبوهُ لعلَّهم يَتلمَّسونَهُ فيجِدوهُ. وهو غيرُ بعيدٍ عن كلِّ واحدٍ منَّا… لأنَّهُ وَقَّتَ يوماً يدينُ فيهِ العالَمَ كُلَّهُ بالعَدلِ على يَدِ رجُلٍ اختارَهُ، وبَرهَنَ لجميعِ الناسِ عن اختيارِهِ بأنْ أقامهُ من بين الأموات!” (أعمال الرسل 17: 27-31)، جعلوه حسب رغباتهم وتوقعاتهم؛ وهكذا حاولوا أن يفعلوا بيسوع!  

إذا كان هناك خطأ في أن يعترف المسيحيون أكثر من غيرهم، فهو أنَّهم لم يقدروا على الإعتراف بأنَّ يسوع قد جاء وعاش في الجسدِ والدمِ: “هذا الذي جاءَ هو يسوع المسيح،   جاء بماءٍ ودمٍ، جاء لا بالماءِ وحدَهُ، بل بالماء والدَم. والروح هو الذي يَشهَدُ، لأنَّ الروحَ هو الحَقُّ. والّذينَ يَشهَدونَ هُم ثلاثةٌ. الروحُ والماءُ والدمُ، وهؤلاء الثلاثةُ هم في الواحد” (1 يوحنا 5: 6-8)، لقد جاء “تعلَّمَ الطاعة، وهو الابن، بما عاناه من الألم” (عبرانيين 5: 8)، جاء كرجل بامتياز: “ها هو الرجل” أعلن بيلاطس أمام الجميع! (يوحنا 19: 5).  

يقول الأب Enzo Bianchi يمكننا إعادة صياغة كلمات الرسول بولس (راجع 1 كور 1: 22-24): “في حين أن اليهود يسعون إلى إظهار إله قادر على كل شيء، والعالم يريد إظهار إله فكر ذهني، نحن نُبشّر بإله إنساني، إنساني بكل معنى الكلمة، هو الله الذي أظهر نفسه في يسوع، إنسان مائت، ولكنه قادر على إعطاء حياته للآخرين (راجع يوحنا 10: 10؛ 15: 13)، إنسان ضعيف ومحدود ولكنَّه قادر على التغلب على قوى الشر. إنسان ولد من رحم إمرأة، جعله “الله خطيئةً من أجلنا” (راجع 2 كورنثوس 5: 21)، الذي مات كعبد وشرير، ودفن في الأرض، ونزل إلى العالم السفلي بين الأموات، مثل أي شخص آخر ابن آدم: إذن إله غرق في الخليقة، كما يحدث لكل إنسان يأتي إلى العالم، يعيش ويموت”. من ناحية أُخرى، كان يسوع إنساناً فريداً في حب الآخرين، في إعطاء ذاته للآخرين، في أن يكون إلى جانبنا أمام الله: هذا هو تفرده الإنساني الرائع للغاية، وبهذا يمكننا القول، إنَّه إله.  

في التاريخ، الكلمة كان يسوع الإنسان يتَّجه إلى الله، كونه الله صار إنساناً، لأنَّه: “ما من أحدٍ رأى الله. الإله الأوحدُ الذي في حِضنِ الآب هو الذي أخبر عنه” (يوحنا 1: 18)، لقد تحدّث وشرح، وكشف الله، لأنَّه أخبرنا بشكل قاطع مَن هو الله: إنَّه الحب: “مَن لا يُحبُّ لا يعرف الله، لأن الله محبة” (1 يوحنا 4: 8) “نحن نعرفُ محبة الله لنا ونؤمن بها. الله محبَّة. مَن ثبتَ في المحبة ثَبتَ في الله وثبتَ الله فيه” (1 يوحنا 4: 16).  

لكي نكون أبناء وبنات الله، لا نحتاج إلا لأن نكون رجالًا ونساء على صورة يسوع الإنسان، ابن الله.  

بقلم: الاب سامي الريس

عن الاب سامي الريس

شاهد أيضاً

قراءات الجمعة الثانية بعد الميلاد

خروج 15 : 11 – 21 ، ارميا 31 : 13 – 17 من مثلك …