الأحد السابع من الدنح … شفاء الأبرص (متى 8: 1-4)

تؤمن الكنيسة بأنَّ المُعجزات علامات على طريق الإيمان وليست هي الطريق، علامة يتطلّب قبولها إيماناً قوياً مثل الذي أظهره هذا الأبرص بسجوده بإعترافه: “إنّكَ يا ربُّ قادرٌ على كل شيءٍ”، فهو يتركَ كلَّّ شيءٍ بيد ربّنا يسوع المسيح ويسجدَ أمامهُ منتظراً بإيمان الشفاء، والربُّ ثبّتَ له بأن إيمانه صحيحٌ هو، لأن الله حضرَ إلى جانبِ شعبه، لاسيما وأن الناس كانت تؤمن بأن المرضَ عقابٌ من الله.  

في تاريخ شعب الله المُعجزات علامة حضور الأزمنة المسيحانية حيث تُهزم الخطيئة وسُلطانها والمرض أحد هذه السُلطات: البُرص يُبرأون، الموتى يقومون، الصمُ يسمعون والعميان يُبصرون هذا ما يقوله إشعيا عن مجيء الماشيحا مُختار الله: “4 قولوا لمَن فزِعت قُلوبُهم: (( تَقَوَّوا ولا تَخافوا ها إلهُكم آتٍ لخَلاصكم. يكافئكم على أمانتكم وينتقم لكم من أعدائكم)). 5 عُيوِنُ العُمْي تنفتَحُ وكذلك آذانُ الصُّمِّ 6 ويَقفِزُ الأَعرَجُ كالغزالِ ويَترنّم لِسانُ الأَبكَم. تنفَجَرُ المِياهُ في البَرِّيَّة وتجري الأَنْهارُ في الصحراء” (إش 35: 4-6). هذا يعني أن المسيح يعيد الإنسان المريض إلى صورة الابن، الإنسان الجديد، المنتصر على كل شر، كل مرض وحتى على الموت.  

هذا الانتصار يتطلب أولاً وقبل كل شيء سماع لكلمة الابن، فالسماع هو نوع من الشفاء. يسوع هو مثل موسى ينزل من الجبل لكنه ليس لكلمة مسموعة فقط بل كلمة تحقق، فهو الابن، بالتمام كالله الذي يحقق حضور نعمته بين الأخوة، فكل ما قاله على جبل التطويبات ليست شريعة بل إنجيل “أي بشرى سارة”. لا يمكن للشفاه أن تتحدث عنه بالشر مثلما حدث لموسى عندما تزوّج من امرأة حبشية: «فتكلّمت مريم وهارون عليه سُوءاً بسبب ذلك وقالا: “أموسى وحده كلمة الرب؟ أما كلَّمنا نحن أيضاً؟”» (راجع عدد 12: 1-10). كلمة الرب يسوع هي ينبوع من ماء الحياة: كل من يطمس بها “يعتمد بها”، يخرج طاهراً، ويشفى من مرضه، من خطيئته وموته، ويصير كلحم طفلٍ (2 مل 5: 14).  

كان البرصُ مرضاً خطيراً ومُعدياً وكانَ لزاماً على الأبرص أن يُغادرَ الجماعة ليعيشَ منعزلاً في أمكنة خاصّة حيث لا يتصّل بالآخرين، ويُمنَع على الناس الإتصالَ بالبُرصِ ولمسهم ففي ذلك نجاسةٌ، وكان على الأبرص أن يصيح: “إبتعد عنيّ نجس، إبتعد عني نجس”، إن مرَّ بجانبِ إنسانٍ صحيح وسليم. كما عليه أن يلبس ثيابٍاً تدل على ذلك حسب ما يذكر في سفر الاحبار: “45 والأبرَصُ الَّذي بِه إِصابة تكونُ ثِيابُه مُمَزَّقةً وشَعَرُه مَهْدولاً ويَتَلَثَّمُ على شَفَتَيه ويُنادي: نَجِس، نَجِس. 46 ما دامَت فيه الإِصابة، يَكونُ نَجِساً، إِنَّه نَجِس. فلْيُقِمْ مُنفَرِداً، وفي خارِجِ المُخَيَّمِ يَكونُ مُقامُه”. (لاو 13: 45-46). لذا، لم يقترِبَ منهم ربّنا لأنهم كانوا منعزلين ومعزولينَ خارجَ البلدة. كان الناس يرمون لهم الطعام من بعيد أو يتركوه على مسافةٍ، ولربّما فعلَ أحدهم أن أوصلَ لهم الطعام وحدّثهم عن ربّنا يسوع المسيح، وقوّة الله التي تعمل فيه، وكانت هذه فرصةً لهذا الأبرص أن يُغادر عُزلته ويتركَ خلفه الماضي ويدخل المدينة مُجازفاً ليبحث عن ربّنا يسوع المسيح، وحينَ وجده سجد أمامه مُتوسلاً: “إن شئتَ يا ربُّ فأنتَ قادرٌ على أن تُطهرني”.  

يتجاوز الأبرص كل الأعراف والمُحرمات والضغوطات الإجتماعية كونه محكوم عليه بسبب برصه بـ: التهميش المؤبد فيسير نحو يسوع، ويُعلن إيمانه بربّنا قائلاً: إن شئتَ، وإستجابَ ربنا لهذه المسيرة بلمس الأبرص، وهذا فعلاً كان مُحرماً، وثم طهّره من برصه وأرسلهُ إلى الكهنة ليُقدّم الشُكرَ لله، ويسمح له بدخولِ الجماعة مُعافى، ولكنَّ الأهم من ذلك كلّه ليُعلن بدء الأزمنة المسيحانية. هذا الشخص يختلف عن الآخرين أنه ابن الله الذي سمع عنه في يوم عماذه “هذا هو أبني الحبيب الذي عنه رضيت” (متى 3: 17). لمس يسوع الأبرص وشفاه عكس ما يقوله المثل الشعبي: “بأن التفاحة العفنة تصيب السليمة”، هنا يحدث العكس الكل يتطهر لان يسوع هو مصدر الطهارة والحياة.  

هذه الأعجوبة التي يذكرها متى هي الأولى في كتابه فما الغرض منها؟ لو انتبهنا جيداً نرى أن يسوع يقول للأبرص: “لا تقول لأحد … أذهب وأري نفسك للكهنة”. ففي كتاب اللاويين الفصل 13 يوصي الله موسى بأن على الكهنة أن يفحصوا مثل هؤلاء الأشخاص ويقرروا إذا كان قد تعافى أم لا! وكما هو معروفٌ أيضاً فقط الله هو الذي يستطيع شفاء الإنسان المصاب بمثل هذا المرض، هكذا نقرأ في سفر الملوك الثاني: “7 فلَمَّا قَرَأَ مَلِكُ إِسْرائيلَ الرِّسالَة، شَقَّ ثِيابَه وقال:((أَلَعَلِّي أَنا اللّهُ الَّذي يُميتُ ويُحْيي، حتَّى أَرسَلَ إِلَيَّ هذا أَن أَشفِيَ رَجُلاً مِن بَرَصِه؟ إِعلَموا وآنظُروا أَنَّ هذا إِنَّما يَتَحَرَّشُ بي))” (2 ملوك 5: 7) . وهنا تكمن المشكلة إذا اعترف الكهنة بشفاء الأبرص يعني أنهم يعترفون بقدرة يسوع أي على أنه المسيح المنتظر.  

مع الأسف الكهنة لم يعترفوا بقدرة يسوع وسيعلنون عن غضبهم يوماً ما. لكن يسوع لم يتوقف من هذا الفعل، بل أرسل تلاميذه كي يبشروا العالم مع توصيات أخرى وهي: “طهّروا البرص” (متى 10: 8). كل ما حُكمَ عليه بالعُزلة والإختباء صارَ مُعلناً الآن: الأبرص صارَ سليماً طاهراً، والخبرُ صارَ إعلاناً، لأن ربّنا لا يُريدنا أن ننعزلَ وننطوي على ذواتنا ونحكم على أنفسنا بالسجنِ المؤبد مع القلق والهمّ والخوف، بل أن نقرر البحث عن يسوع في كل الأمكنة والإنفتاح لدعوة التوبّة إلى إنجيله والعودة إلى الله أبينا. هذه الخبرة ستُصبح بحدِّ ذاتها موضوعاً للإرسال والشهادة لأنها ثمرة هذا اللقاء، على الرغمِ من أن ربّنا لا يبحث عن دعايةٍ، بل يُرسل الأبرص ليقومَ أمام الكهنة ويُؤدي شهادة الشُكرِ لله الذي بادرَ وأرسلَ ربّنا يسوع، وهذا لا يحدث في خلوة بعيداً عن الناس فيما بين الجموع الكثيرة.  

نحن نعيش في عالمٍ مُبتلى بالخطيئة وتقرّبنا منه يُعدينا ويُعزلنا بعيداً عن الكنيسة وعن الجماعة في حزنٍ ومشاعر ذنب وكأن الله إبتعدَّ عنّا فلا خلاصَ لنا. نحن نعيش في عالمٍ يتحدّانا يومياً بتجربةِ اليأس من رحمةِ الله، وكأنَّ الإنسان وُلدَ ليخطأ وسيبقى خاطئاً ويموتَ هالكاً، فأينما نلتفت نرى الدمارَ والخراب الذي تُسببه الخطيئة من جرّاء قساوة الإنسان، وهي تُفقدُ الإنسان شجاعة التوبة والعودة إلى الله ابينا الذي أرسلَ إبنه، ربّنا يسوع المسيح ليلمُسَ شافياً. الخطيئة، وكما يُشيرُ دوما الكتاب المُقدس، هي قساوة القلب وعناده الذي يرفضُ المُطاوعة لإرادة الله، فيسير في طُرقه الخاصّة ليجفَّ في علاقاته وييبس فينكسرَ غيرَ قادرٍ على التواصلِ مع الناس. يُحكى عن حادثة حصلت في ساحة القديس بطرس عندما رغبوا في وضع المسلة التي هي الآن في وسط الساحة. أمر البابا بعدم التفوه بأي كلمة ويعاقب كلُ مَن يتكلم! بينما بدأت عملية رفع المسلة صرخ أحد الحاضرين فقال: “بللوا الحبال، بللوا الحبال” جاء الحرس وقدّموه مذنباً أمام البابا، فقال له سوف تتقطع الحبال إذا لم تبلل! وهكذا تمت العملية بنجاح لأن الحبالَ الجافّةَ كانت ستتقطّع، أما المُبللة فتتحمل ثقلاً أكبر، هكذا تمّ إكرام هذا الشخص عوض أن يدان.  

ما أريد أن أقوله هو القلوب القاسية والمُتحجّرة لا تصمُد أمام تجاربِ الحياة، وحدها القلوب المُبللة بنعمةِ إلهنا قادرةٌ على مواجهة صعوباتِ الحياة ومشاكلها. وكيفَ تتبلل قلوبنا بنعمة أبينا السماوي؟ يُجيب آباؤنا الروحيون: بدموع التوبة والندامة! لأنها دموعٌ صادقة تلتفتُ إلى الله طالبة مُستجيبةً لمحبّته، والله وعَدَ بأنه آتٍ ليمسحَ كل دمعةٍ من عيوننا.  

بقلم: الاب الدكتور سامي الريس

عن الاب سامي الريس

شاهد أيضاً

قراءات الجمعة الثانية بعد الميلاد

خروج 15 : 11 – 21 ، ارميا 31 : 13 – 17 من مثلك …