الأحد السادس من الدنح 2022 … يوحنا المعمدان صديق العريس

تشير قصَّة إنجيل يوحنا هذا الأحد إلى مناقشة حدثت بين تلاميذ يوحنا مع أحد اليهود: بدءًا من المعموديَّة المختلفة الّتي تَمَّ إجراؤها، حملت هذه المناقشة غيرة عميقة، والّتي، إذا لم يَتِمّ السيطرة عليها، يمكن أنْ تنتهي بسهولة إلى عبادة الأصنام. مِنْ معلم المرء وفي تعصب الانتماء، الّذي على الأغلب، لا يزال يُميّز بعض التَعبيرات الدينيَّة.  

أين ذهب تعليم المعلم؟  

لقد تعلَّمَ يوحنا المعمدان، بمناسبة كرازته، توجيه أصابعه إلى يسوع، مشيرًا إليه بأنّه المسيا الّذي سيأتي. مع اقتراب موته، يطرح يوحنا بعض الأسئلة المهمَّة عن يسوع الناصري: “هل أنتَ الآتي أم علينا انتظار آخر؟” (متى 11: 3). ولكن، وفقًا لمقاطع أُخرى مِنَ الإنجيل، كانت كرازة يوحنا المعمدان صريحة ودقيقة: فبالنسبة له، لا يمكن أنْ يكون يسوع سوى الكلمة، الكلمة الحقيقيَّة الّتي أعلنها الأنبياء منذ زمن طويل، بينما كان هو مجرّد الصوت. أنّه دعمه، وقاعدته.  

كان هوَ الّذي يجب أنْ يُعِدَّ هذا الطريق الّذي سيتبَعه المسيح بعد ذلك، كقائد مُنتصر ومُخلِّص لشعبِ إسرائيل. هوذا جوهر الرسالة العظيمة لسيدهم الّتي نسيها تلاميذه تقريبًا. وكأنَّهم “عميان”، مما يفسح المجال لبعض مشاعر الغيرة. ربما كان الاستياء القديم الخامد، مِنَ المقارنات الّتي ليس لها الحَقَّ في الظهور والتَعبير عنها. كانوا مُهتَمين بأنفُسِهم أكثر مِنْ اهتمامهم بالحقيقة العميقة الّتي علَّمَهم إيَّاها مُعلِّمهم منذ فترة طويلة. لذلك تَمَّ إختصار كل شيء إلى سؤال الجمهور، إعطاء الموافقة. مسألة كميَّة المعموديَّة الّتي تَمَّت، مِنَ الأعداد الفعليَّة. كم هوَ مُحزن عندما نواجهُ تَناقُصِنا، وتَلاشي أرقام الماضي، نشعر بالرغبة في عَدِّ أنفُسِنا مرَّة أُخرى، دون فهم ما يحدث بالفعل!  

لقد فَهَمَ التلاميذ كلمات يوحنا المعمدان، وهيَ علامة على أنَّه لم يقتَصر على الكرازة بالتوبة، ولكنه أبلغهم أيضًا بخِطَّةِ الله لكُلٍّ مِنْ الشعب المختار وجميع الّذين سيأتون يومًا ما، موضحًا لهُم كم كانت المشاعر الإنسانيَّة النموذجيَّة الّتي شعروا بها في غير مكانها، نفس المشاعر الّتي حرَّكَت يوحنا تلميذ المسيح فيما بعد عندما قال له: “يا معلّم، رأينا رجُلاً يطرد الشياطين باسمك فمنعناه، لأنَّه لا ينتمي إلينا” (مرقس 9: 38). لم تكن المشكلة في أنَّ تلاميذ يسوع قد تعمَّدوا واندفع الناس إليه، ولكن تمايز الأدوار: لقد حان الوقت الّذي سيَضطَر فيه يوحنا إلى التَنحِّي جانباً وسيصبح يسوع أكثر أهميَّة، مع التركيز على استمرار الوعظ على نفس الاسلوب، مِنَ المعجزات، الّتي تُنير كُلٍّ منها، المعاني الروحيَّة الّتي تحملها.  

“يجب أنْ ينمو، يجب أنْ أنقص”  

لا يسمح يوحنا المعمدان لنفسِهِ بأنْ يُشتِّت انتباهه. يعرف كيف يبقى في مكانه دون أنْ يخون دعوته العميقة. دون ترك مساحة لعدم اليقين، يُحوّل السؤال إلى الأساسي، مُتوجَّهًا إلى الجذر: “لا يمكن لأحدٍ أنْ يأخُذُ شيئًا إذا لم يكن قد أعطيَّ له مِنَ السَّماء. أنتُم أنفُسُكُم تَشهَدونَ بأَنّي قُلتُ: ما أنا المسيح، بل رسُولٌ قُدَّامه”. أي: لم أخبركم قَط أنّي أنا المسيح. ولا آتي أنا بعده لأنّي بالحري أُرسلت قبله! لطالما كانت هذه مُهمَّتي، وكانت هذه هيَ رسالتي دائمًا. ويختَتم بتَعبير يقول بتركيب رائع معنى وجوده، ولكن في نفس الوقت، من الناحيَّة الإنجيليَّة، جوهر أي تلميذ للرَّب: “يجب أنْ ينمو؛ أنا، مِنْ ناحيَّة أُخرى، أنقُص”. مَقولة مفادها أنَّه ربما لا يزال مِنَ الصعب مُمارستها بعد قرون.  

” لَه هوَ أنْ يزيدَ، ولي أنا أنْ أنقُصَ” كلمات مُهمَّة للغاية، توبيخ مُحِب لأولئك التلاميذ الّذين كانوا يرغبون بدلاً مِنْ ذلك في رؤية معلِّمهم يَزدادُ أهميَّة في ضوء الحياة الّتي عاشها والأشخاص الّذين أتوا للاستماع إليه: يوحنا المعمدان، بهذه الكلمات، يُذكِّرهم أنه لم يخف أبدًا أنَّه كان رسولًا بسيطًا: “بعدي يأتي مَنْ هو أعظَمُ منّي”. لقد وصل “أعظم منّي” فهو ليس أي شخص فحسب، بل هوَ شخص “يأتي مِنْ فوق” و “فوق كُل شيء” لأنَّه “يأتي مِنَ السماء”، أي مِنْ مكانٍ عالٍ يتَعذَّر الوصول إليه، فهو الشخص الوحيد الّذي يمكن أنْ يكون لديه السلطة للتَحدُّث عن أشياء كان مِنْ الممكن تجاهلها بخلافِ ذلك وهو يفعل ذلك ليس لأنَّه درس، ولكن “يشهد على ما رآه وسمعه”.  

يُعلِّم يوحنا المعمدان، كإنسان يَقِظ ومُدرك لدوره، أنَّ اللحظة الّتي سيتَعيَّن عليه التَنحّي فيها وشيكة: ” لَه هوَ أنْ يزيدَ، ولي أنا أنْ أنقُصَ”. وفي الواقع ستنقُص رسالته بما يتناسَب مع شَخصِ يسوع، الّذي أنار له الطريق إلى الناس بتعاليمه، الّذي أشارَ إلى الطريق إلى السَّماء، أي نفسه: “أنا الطريق والحق والحياة”. إنَّه الحُب الحقيقي، الّذي لا يَسعى وراء الكسب الشخصي، بل يسعى إلى كسب الآخرين. سيستخدم الرسول بولس، العلاقة بين المسيح والكنيسة لوصف علاقة الزواج بين المؤمنين الواعين: “أيُّها الأزواج، أحِبُّوا نِساءَكُم كما أحَبَّ المسيح الكنيسَةَ وضَحَّى بِنَفسِهِ مِنْ أجلِها، ليُقدِّسَها ويُطَهِّرها بِماءِ الإغتِسالِ وبِالكَلِمة، حتّى يَزُفَّها إلى نفسِهِ كنيسةً مَجيدَةً، لا عَيبَ فيها ولا تَجَعُّدَ ولا ما أشبَهَ ذلِكَ، بل مُقَدَّسَةً لا عَيبَ فيها” (أفسس 5: 25-27).  

صديق العَريس  

كان صديق العَريس، لحفلاتِ الزَفاف في ذلك الوقت، مَسؤولاً عن جميع مُقدمات الزواج وكان له وظيفة فنيَّة قانونيَّة: طلب يَد العَروس، ويُشدِّد على عقدِ الزواج وتثبيتِهِ. المهر، تهيئة وترأس وليمة الزفاف وكُل ما كان يتَناسب مع مَرتَبة العائلَتين. لقد كانت مهمَّة حسّاسة تتَطلّب ثِقة مُطلَقة وصداقة حميمة بين العريس وصديقه.  

لاستخدام هذه المصطلحات، وبالتأكيد في حضور الرسول يوحنا وربما أيضًا الثلاثة الآخرين (أندراوس وبطرس ويعقوب)، يبدو أنَّ المعمدان قد تلقى تعليمًا عميقًا للغاية مِنْ الروح لأنَّه رأى، وإنْ كان بطريقةٍ مُختلفة، ما يصفه يوحنا في سفر الرؤيا عندما كتب: «ثم سَمِعتُ ما يشبِهُ صوت جمهورٍ كبير أو هدير مياهٍ غزيرةٍ أو هَزيمَ رعدٍ شديدٍ يقول: “هَلِّلويا! المُلكُ للرَّبِّ إلهنا القدير. لنفرح ونبتهج! ولنُمجِّدهُ لأنَّ عُرسَ الحمل جاء وقتُهُ، وتَزيَّنتْ عَروسُهُ. وأُعطيت أن تلبَسَ الكتّان الأبيض النَّاصعَ”. والكتَّان هو أعمال القدِّيسين الصالحة» (19: 6 – 8).  

مِنْ بين التَعبيرات العديدة الّتي استخدمها يوحنا لمساعدة أصدقائه على إيجاد طريق حقيقة الأشياء، هناك بالتأكيد صورة صديق العريس، المرتبطة مباشرة بفرح عميق: “العريس هو الّذي تنتَمي إليه العروس؛ وامّا صديق العَريس الحاضر الّذي يسمع له فيفرح بصوتِ العريس. الآن اكتملت فرحتي هذه”. يوحنا لا يتَحدَّث إلينا عن واقع مُنظَّم. إنَّه بالتأكيد لا يحلم بتنظيم الوقت لمجيء المسيح. مع صورة العروس والعريس المأخوذة مِنَ الأنبياء القدماء، فهو ببساطة يلمح إلى الجمال والفرح اللذين ينبعان مِنَ العلاقة مع المسيح الّذي سيأتي.  

وبتأهيل نفسه أمام هؤلاء التلاميذ، يجري يوحنا المعمدان مُقارنة كاملة. لقد أعَدَّ وأرسى الأُسُس لكنيسة كانت، بينما لا يزال يتعين تشكيلها، رأى ظهورها في مستقبلها القريب والبعيد، بينما رآها الرسول يوحنا بكُلِّ كمالها في رؤية أورشليم السَّماويَّة الّتي “فيها” مكتوبة في سفر حياة الحمل “سيشكل واحدًا معه (رؤيا 21.9 – 27).  

وصل العَريس يسوع، وهو صديق العريس يبتهج ليرى العَروس (الشعب) تلتقي بالعَريس.  اكتمل فرح يوحنا.  حانَ الوقت لإعطاء المجال للعَريس والاعتزال ومُغادرة المشهد.  شهادة جميلة، مليئة بالتعاليم لنا جميعًا. يقدم لنا يوحنا درسًا عظيمًا، فهو يعرف كيف يشير إلى يسوع ولا يضع نفسه في مكانه، لكِنَّه يتراجع خطوة إلى الوراء. درس لنا جميعًا على الطريق لإفساح المجال ليسوع في حياتنا مِنْ خلالِ عدم وضع أنفسنا مكانه. إذا عرفنا كيف نعطي يسوع المكان المناسب، فيمكِنُنا بذلك أنْ نريه للبشر الّذين يبحثون عنه.  

بقلم: الاب الدكتور سامي الريس

عن الاب سامي الريس

شاهد أيضاً

قراءات الجمعة الثانية بعد الميلاد

خروج 15 : 11 – 21 ، ارميا 31 : 13 – 17 من مثلك …